سقوط الأسد 2023
تشبه عملية إسقاط الإدارات الأميركية المتعاقبة نظام الأسد في سورية حكايةً حكاها لي صديقي الإدلبي، محمد مجلوبا، عن شابٍّ طقّ عقله، وهو قليل الحظ. استفسرت منه عن موضوع قلة الحظ، فأجاب: المحظوظ يولد في أسرة عاقلة، تأخذه إلى الأطباء، وتستقصي عن أسباب المرض، عضوية، أو عقلية، أو نفسية، وتحافظ على أسراره وخصوصيته. لكن، حصل أنّ أفراد أسرة هذا الفتى، بمجرّد ظهور علامات الجنون عليه، قرّروا أنّ جنّياً قد تلبّسه، ولا بدّ من اللجوء إلى الحلّ الممكن في مثل هذه الحالة، وهو أن يأتي شيخ (مشعوذ) مختصّ بإخراج الجنّ من البشر، ويُخرجه، ليعود إلى عقله، كأنّ شيئاً لم يكن.
تعرّض ذلك الشاب المسكين، مثلما تعرّضت سورية منذ 2011، لدخول مشعوذين متنوّعين إلى غرفته، ومعهم حِبال، وخيطان، وأسلاكٌ، وآلات قَرص، ونكش، وقَلْوَزة (فتح شرار)، عدا عن العصي والمخابيط، وراحوا يشتغلون كما لو أنهم حدّادون، في جسد الشاب، ويقولون للجنّي: اخرج! استغاث الشاب، أكثر من مرّة؛ مثلما استغاثت سورية، وقال لأهله والمشعوذين: خلص، والله العظيم شفيت، والجنّي خرج، وما عدتُ بحاجةٍ إلى عطفكم وحنانكم، طيّب، يا أخي، جرّبوني، اتركوني أخرج إلى الشارع، وستروْن كيف أمشي في طريقي باستقامة، مثل بغل الطاحون، لا ألتفتُ يمنةً ولا يسرةً، أحترم الكبير، وأعطف على الصغير، وأصعد السلالم بتؤدة، لئلّا أتعثّر، وأقع، وأصير أضحوكةً بين الناس. وإذا كنتُ في مجلس، سأزن كلامي بميزان الذهب، وإذا عطس أحدهم أشمّته، وإذا روى آخر سالفة، أهزّ له برأسي، مؤكّداً صحة كلامه، حتى ولو كان كاذباً، وإذا غنّى ذو صوتٍ من أنكر الأصوات موّالاً، أتمايل طرباً، وأدقّ بيدي على كتفه، وأقول له: طيّب الله أنفاسك.
لكنّهم لم يقتنعوا بكلامه، فالمشعوذ هو الذي يقرّر إن كان الجنّي قد خرج من جسده أو لا. والأهل، وهذه شهادةٌ من المرحوم محمد مجلوبا، لوجه الله خالصة، لم يقصّروا بحقّ ابنهم، كانوا يأتونه، بين حين وآخر، بمشعوذ، يحاول إخراج الجنّي من جسده، وفي الوقت نفسه، يبحثون عن مشعوذٍ مختصّ، أكثر خبرةً ومعرفةً من سابقيه، حتى عثروا، أخيراً، على المشعوذ الذي شبّهتُه، أنا كاتب هذه الحكاية، بأميركا. فالرجل دخل إلى الأسرة دخول الفاتحين، وقال لربّ الأسرة إنه إذا أردتم أن يخرج الجنّي من جسد الفتى بلا ألم، أو مشكلات، نفّذوا ما أقوله لكم بحذافيره. الجماعة وافقوا بالطبع، والشيخ توجّه من توّه إلى الفتى، وقال مخاطباً الجنّي الذي يتلبّسه: اخرج! وتركه واتجه إلى غرفة الجلوس، وقال للنساء: بدّي قهوة. أحضروا له قهوة، شربها على مهله، وهو يشفط بشفاتيره، ويتلمّظ، ويسترق النظر إليهن... وبعد مضيّ وقتٍ لا بأس به، قال للجنّي اخرج، وطلب أن يُجلسوه في الحديقة، ويجهّزوا له إبريقاً من المتّة، مع نفَس أركيلة عجمية، فهو لا يحبّ المعسّل، ولكي يستفيد من الوقت أمرهم بأن يجهّزوا طنجرة محشيٍّ مع عصاعيص الخروف، وأن يجدّدوا له القهوة والشاي والمليسة والزهورات. وفي أوقات فراغه، كان يذهب إلى الفتى، ويقول للجنّي: اخرج... وكانت المفاجأة المدوّية، أنّ الجنّي خرج، بعد حوالى أسبوعين من هذه الزيارة الملحمية، وقال للشيخ: والله إنّي لم أخرج بفضل بَرَكاتك، ولكن رحمةً بهؤلاء الناس الطيبين!
في بداية الثورة، خرج سفير أميركا في دمشق مع المتظاهرين، وحثّت حكومته الأسد على إجراء إصلاحات. وبعد سنتين قايض أوباما عملية ضرب الغوطة بالسلاح الكيميائي على ترسانة هذا السلاح الأسدية، وضرب ترامب مطار الشعيرات، وأصدر قانون قيصر، وجاء بعده بايدن، وأتحفنا بقرار اعتبار الأسد ملك الكبتاغون... وكلّ أربع سنوات يتغيّر رئيس أميركا، فيما الأسد وعصابته المجرمة باقون، والشعب السوري هو الوحيد الذي يموت قتلاً بالأسلحة، أو من شدّة الجوع.