سلاماً للذين تقطّعت بهم السبل
سلاماً وافراً مستحقّاً لهم جميعاً على طريق الرضا والقناعة والمحبة والشوق والعمل والكتابة أيضاً. سلاماً لأولئك الذين ما زالوا ينعمون برفاهية الهامش الواسع الظليل، التي لا يراها سواهم. الذين أتوا الرضا والمحبة والقناعة، وعملوا في سبيلها، فنالوها مضاعفةً على وقع الخطى نحو أمجاد كبيرة.
سلاماً لأولئك الذين لم يُغرّهم بريق الشهرة الزائفة، ولا لمعان النجومية الخاوية، وما زالوا يكدحون وراء المعنى، مستقلين قوافل الأسئلة الصعبة، غير عابئين بالأجوبة الجاهزة في معلبات منتهية الصلاحية تصطفّ بأناقة على رفوف التخفيضات!
سلاماً لأولئك الباحثين، بجدّ واجتهاد، عن الثغرات ليملأوها، وعن الغيابات ليسدوا الفراغات فيها، وعن اليُتم ليمسحوا على رؤوس أصحابه، وعن الفقر ليحاربوه بالعمل والمحبة والعطاء.
سلاماً لأولئك الذاهلين عمّا يقوله الناس في شوارع الكلام المجّاني، الذاهبين في رحلات الإيمان واليقين في صيف العمر وشتائه، رغم كل الأنواء والظروف والأحوال.
سلاماً لأولئك الغرباء السالكين في الطرق الموحشة، الماشين وراء أضواء حقيقية تخاتلهم في أواخر الأنفاق، لأنهم يعرفون أنها حقائق الحياة التي لا تدرك إلا بمشقّة.
سلاماً لأولئك القانعين بلذّة البحث في أكوام من قش الحقيقة، الذين لا يتعبون ولا ييأسون ولا يكلّون ولا يستسلمون. سلاماً لأولئك الذين يعرفون أنهم لا يعرفون فلا يدّعون المعرفة، ولا يصرون على الفوز ولا يشتركون في منافسات طلباً للمراكز الأولى وميدالية الشرف المصنوع!
سلاماً لأولئك الباقين على عهد الرضا الأول، الرابضين في مداخل القلوب النقية، الطالبين العز تحت سماوات الله في صهد الظهيرة وحلكة الليل، لأنهم يعرفون أنهم لن يصلوا حتى يوقنوا بالمحبّة والرضا.
سلاماً لأولئك الشهود على أزمنة لا تكاد تمرّ، وأوقات تفيض بساعاتها ودقائقها حتى يظنّوا أنها لا تنتهي، فلا يكادون يغادرونها، صبراً واحتمالاً.
سلاماً لأولئك المحتفين بالجمال كما يرونه في عيون قلوبهم، لا كما تظهره الشاشات الملوّنة، ولا كما تبديه أعين الآخرين في منصات النفاق مقابل الأموال المشبوهة كذباً وزوراً. سلاماً لأولئك المفتونين بالفرح العميق، البسيط، الجميل، الطالع من منابت الحب في القلوب الجميلة، والنفوس العظيمة.
سلاماً لأولئك الآمنين في أسرابهم، محترفي الدهشة في أوقات الملل، بفيوض الإبداع ونقاء السريرة، وإرادة الغيم في نثيث المطر. سلاماً لأولئك المقتفين أثر الذين ذهبوا بامتياز المجد موتاً ورحيلاً في فيافي الله، إكراماً للذكريات وتلويحاً بالثبات. سلاماً لأولئك الذين أدركوا مبكّراً أنهم ذاهبون أيضاً، مهما بلغت أعمارهم في دنيا الفناء، فاستعدّوا للرحلة الأخيرة بزاد لا ينفد ولا تنتهي صلاحيته.
سلاماً لأولئك الذين أقسموا وبرّوا بقسمهم عندما اختلطت مفاهيم الصدق والكذب، فطفت على سطوح الأزمان كائناتٌ لا تعرف سوى الكذب. سلاماً لأولئك الذين عانوا فابتسموا، واعتُدي عليهم فقاموا، وظُلموا فصبروا، وتقطعت بهم السبل فعرفوا أنهم وصلوا.
سلاماً... سلاما