سلطنة بورنجا تعلن الحرب على محلات الكشري
ذهبت سيدة مصرية مسيحية لاصطحاب ابنتها إلى البيت بعد يوم طويل، حضانة وتمرينا. كان هذا في نهار من رمضان الجاري. وقبل موعد الإفطار بأقل من ساعتين، طلبت الصغيرة أن تأكل، فأخذتها الأم إلى محل كشري، وطلبت، وبدأت في تناول الطعام. جاء أحد العاملين، مسرعا، ليخبرها بأنه ممنوع الأكل قبل أذان المغرب، ردّت ببساطة، وفق روايتها، يعني إيه؟ .. مش ده مطعم ومفتوح والناس قاعده، رد العامل: الناس تقعد بس محدّش ياكل قبل الاذان. .. قالت السيدة: أنت صايم ومستني الاذان.. براحتك.. أنا مش صايمة وقاعده في "مطعم"، والأكل قدّامي إزاي ماكلش؟ رد العامل بحسم: هو ده "النظام". وجاء آخر، بدا للسيدة أنه مدير العامل، لا ليحل المشكل، بل ليكرّر كلام العامل .. ممنوع الأكل .. وهو ده "النظام".
يحتاج "يوم" المصري العادي إلى دراسات معمقة تتقاطع فيها تخصّصات علوم النفس والاجتماع والتاريخ والسياسة والأنثروبولوجيا، مع إعطاء أهمية خاصة لعلم الحفريات، كما يمثل أي "حدث"، مهما بدا عاديا، وساذجا، مادّة خصبةً لكتاب الكوميديا. ولكن في بلد آخر، يتمتع بالحد الأدنى من الاتفاق على البديهيات. حاول أن تقرأ الفقرة السابقة من المقال مرة أخرى، لتكتشف أن كل ما جاء بها لا ينتمي، من قريب أو بعيد، لدنيا الناس العاديين، الذين يعيشون في عالمنا، وفي دولة، أيًا كان موقعها من التحديث أو الديمقراطية، لكنها في الأخير دولة لها قوانين تنظّم العلاقة بين مواطنيها، وتدير الاختلاف. مطعم، مكان يرتاده الناس، في أي مكان في العالم، مفتوح، مستعدّ لاستقبال الزبائن. كل من يحمل صفة "زبون" ولديه ثمن ما يطلبه من حقه الدخول، عامل في المطعم، مهنته أن يخدم الزبائن، ويقدّم لهم ما يطلبون. العامل صائم لأن دينه يأمره بذلك، والزبون غير صائم لأنه يعتنق دينا آخر، أو غير صائم، لأي سبب. هنا يظهر الاستثناء المصري الفريد: العامل ومديره ومحله يأمرون الزبون بالانتظار حتى موعد الإفطار، والزبون يحاول تفهيمهم أنه لا يشاركهم الاعتقاد والشعيرة، وليس عليه الانتظار، فيكون الرد المفحم: هو ده النظام.
كتبت السيدة المسيحية تشتكي، على صفحتها الشخصية، وأثارت نقاشاتٍ كثيرة بين فريقين، ورأيين، خلاصة الأول أننا نعيش في دولة، أو هكذا يفترض، والمجال العام ملك للجميع، و"احترام" الأقليات مشاعر الأغلبية، ما وسعهم، لا يعني أنه حقّ مكتسب، خصوصا أن الأغلبية لا تحترم، بدورها، شعائر الآخرين، ولم نسمع، يوما، عن شيخٍ دعا إلى الامتناع عن أكل اللحوم أمام المسيحيين، وقت صيامهم، أو صاحب مطعم مسيحي امتنع عن تقديم وجبات اللحوم، وقت صيامه، وأخبر زبائنه بأن المطعم مطعمه "وهو ده النظام". أما الرأي الثاني فخلاصته، باختصار، أن البلد بلدنا، بلد مسلم، ودولة مسلمة، ومجتمع مسلم، ومجال عام مسلم، حتى طبق الكشري مسلم، ولا يكفي أحدُهم اكتساب صفة "مواطن" كي يتمتع بأكله، يلزمه أن يكون مسلما (وهو ده النظام).
أين الدولة إذن، أين حماة الوطن، حماة الأقباط من المسلمين، وحماة الإسلام من العلمانيين، وحماة العلمانيين من خيرت الشاطر، أين "النظام"؟ يأتي النظام محمّلا بخبرات السنين في تطييف المجتمع، ويتّخذ قرارا بإغلاق أحد فروع "كشري التحرير". وينشر الخبر بوصفه "انتقاما" لصالح السيدة المسيحية، وتُحرّك الدولة، بالتزامن مع قرار الإغلاق، أحد أدواتها من شيوخ "الضرب في المليان" ليضرب من جديد، ويعلن عن حبّه "كشري التحرير". يشعر بعض الأقباط بالرضا من عقوبة إغلاق المحلّ، ويشعر بعض المسلمين بمزيد من الكراهية تجاه الأقباط الذين تسبّبوا في قطع عيش مسلم "غلبان" يدافع عن دينه، فيما تحتفظ الدولة بخط الرجوع، الآمن، وقت اللزوم، والذي لم يلتفت إليه أحد، وهي أنها لم تتدخّل أصلا في مشكلة السيدة ومحل الكشري، ولم تغلق فرع كشري التحرير الذي حدثت فيه واقعة الطرد والتمييز الديني (فرع سراي القبة)، وإنما أغلقت فرع مدينة نصر، لأنه مفتوح بدون ترخيص، (وهو ده النظام).