سلمان رشدي والجُبن العزيزي
عندما يكثر "الهَشْتُ والنَشْتُ"، والكلامُ الفارغ، بحضور مواطن حلبي، سرعان ما يضجر ويقول متهكماً: خذ من هذا الجُبن العزيزي وسَيّخْ. .. و"التسييخ" كلمة عامية، تعني غلي الجبن قبل تناوله، لكي يميع، وتنخفض نسبة ملوحته، فيصبح مستساغاً .. ويبدو أن الجُبن العزيزي مسحوب الدسم، يحتاج إلى تسييخٍ كثير. وهذا ليس ببعيد عن موقف أبي القاسم الطنبوري الذي أراد أن يتخلّص من فردتي حذائه المنحوستين، فقذفهما نحو بناء مهجور، وكانت هناك، بالمصادفة، دورية من الأمن العسكري تنصبُ كميناً لإرهابيين يعادون بشاراً الأسد، ونزلت فردتا الحذاء على رؤوس العناصر، فخرجوا، وقبضوا عليه، وأشبعوه لكزاً ورفساً حتى وصل إلى الفرع، وهناك رموه في مهجع مليءٍ بالمساجين .. وفجأة تقدّم منه أحدهم وقال له: لولا أن قدميك حافيتان لقلت إنك أبو القاسم الطنبوري.
خطر لي التهكّمان، الحلبي والطنبوري، خلال السنوات الـ11 الأخيرة كثيراً، ففي ظهيرة أحد الأيام، قبل أن أغادر سورية؛ كنت أتمشّى مع أصدقاء على الطريق العام المزفّت (الكَرُّوزة)، وإذا بشابٍّ يمرّ بجوارنا على درّاجته النارية مثل السهم، وبعدما تجاوزنا صار يرفع العجلة الأمامية إلى الأعلى، كما لو أن الدرّاجة حصانٌ جامحٌ يُرَقِّصُهُ صاحبُه في عرس صعيدي. وبالمصادفة، ظهر واحد من أصدقائي غير المؤيدين للثورة، وهو يضع إصبعيه في أذنيه اتقاءً لزئير الدرّاجة، وقال ما معناه: أهذه هي الحرية التي تريدها، يا أستاذ خطيب؟
في أواخر سنة 2011، تقريباً، وكان التسليح قد بدأ ينتشر بين الثوار، تمكّنت مجموعة مسلحة محسوبة على الثورة من قتل عدد من عناصر المخابرات في مكان ما من سورية، فتحنا التلفزيون، وإذا ببرنامج يُبَثُّ مباشرة، فيه محلّل سياسي غاضب، يقول: أأعجبك هذا يا برهان غليون؟ هل هذه الحرية التي تريدها يا ميشيل كيلو؟ وبعد أيام قليلة، وقعت دورية من جيش النظام في كمينٍ لثوار مسلحين، أدّى إلى مقتل عناصرها، وإذا بمحلل سياسي يطلع على الفضائية السورية، ويقول إنه سيتوقف عن حبّ القائد العظيم بشار الأسد إذا لم يعطِ إيعازاً فورياً لجيشنا الباسل، بأن يزحف إلى تل أبيب، ويحتلها. ووقتها، على ما أذكر، تساءل أحد مشاهدي المقابلة، عمّا إذا كان بإمكان جيشنا، الذي يلقب أحياناً بـ جيش أبو شحّاطة، أن ينفذ رغبة ذلك المحلّل الاستراتيجي.. وقال آخر: حتى ولو كان جيشُنا يستطيع ذلك؛ ما ذنبُ المسكينة إسرائيل في هذه "المعميكة" حتى تخسر عاصمتها بهذه السرعة!
في سنة 2011، مع انطلاق الثورة، فوجئ سوريون كثيرون كانوا معجبين بالنظام الإيراني وحزب الله بوقوفهما إلى جانب بشار الأسد، سبب المفاجأة أنه لم يكن قد مضى على حرب 2006 سوى خمس سنوات، ومن غير المعقول أن يكون رئيس حزب الله، حسن نصر الله، قد نسي نزوح المواطنين اللبنانيين الجنوبيين بعشرات الآلاف إلى سورية، وأن الشعب السوري، وليس نظام الأسد، استضافهم، وأكرمهم، وأجلسهم بين أهله.. وبدأ هؤلاء وغيرهم يتأكدون من أن إيران وحزب الله أصبحا يعاديان الشعب السوري علناً، بعدما كانا يعاديانه سراً.
بناءً على هذا الموقف العدائي، وقع سوريون متشدّدون في تناقض رهيب، عندما حاول شابٌّ من أصل لبناني اغتيال الروائي، سلمان رشدي، فإذا أيّدوا الشاب سيبدون وكأنهم واقفون في صفّ الخميني، ونظامه ومليشياته التي تعادينا، وإذا أبدوا تعاطفهم مع رشدي، سيصبّ تعاطفهم في مصلحة الليبرالية، ويبدون كأنهم من أنصار مواجهة الرأي بالرأي، وليس بالقتل.. وللخروج من هذه الأزمة، نُشرت مئات التعليقات القائلة إن سلمان رشدي كاتبٌ ضعيف، يخطئ بالإملاء، وكتاباته لا تؤهله لأن يكون كاتبَ عرائض يسترزق الله أمام القصر العدلي!