09 نوفمبر 2024
سهرية وشموع في صيدا
لبنان أكثرُ من بيروت. واسعٌ في تفاصيله الغزيرة، ومتعدّدٌ في تنويعات مدنه وبلداته وأريافه. وصيدا قريبةٌ، نحو خمسة وأربعين كيلومترا منك في بيروت. وإيقاعُ هذا المساء جيّد للمشوار إليها. ورفقة الصديق صقر طيّبةٌ في كل الأحوال والمواقيت، سيما وأن مزاجيْنا الآن معتدلان، والثورة اللبنانية هناك ليليةٌ غالبا، في وتيرة أسبوعها الثالث. إذن، لنمضِ إلى هناك، ولتكن أول زيارة لك إلى هذه المدينة، الموصوفةُ بأنها حاضرة الجنوب اللبناني، ومن أقدم مدن العالم، ومركز ولايةٍ كبيرة في الزمن العثماني، تمتد إلى شمالٍ متقدّم في لبنان الراهن وإلى جنوبٍ في داخل شمال فلسطين. الطريق جيّدة، والإنارة في مقاطع منها كافية، وأسماء البلدات والقرى والنواحي المؤشّر إليها، وإلى الوجهات إليها، في هذه الطريق معلومةٌ في مداركك، من شهرتها في معارك وحروب وجولات قتالٍ عبر فيها لبنان، الناعمة والدامور والجية وجزّين وغيرها. قاتَل الناس هنا إسرائيل، واحتملوا اعتداءاتها منذ ما قبل الغزو المعلوم في 1982 إلى ما بعده. نعبر إلى صيدا. الشوارع النظيفة والمحلات المضاءة، وأنفاسٌ في الفضاء تبعثُ على الألفة والأُنس والسماحة. نصل إلى ساحة إيليا. ترفع شابّة ما يُخبرنا أن علينا أن "نزمّر" السيارة إذا كنا مع الثورة اللبنانية. ونحن بالطبع مع هذه الثورة التي تتخلّق إيقاعاتُها البهيجة، المدهشة، الدؤوبة، من غضب الشباب وسخط العموم على الحكم وأهله وكل طبقته التي استقرّت على حصصها من طوائفها، ولم تصنع للبنانيين ما يُشعرهم بأنهم مواطنون في دولةٍ عادلةٍ ينتسبون إليها.
عدد المتجمّعين في الاعتصام عند الساحة، إلى جوار حديقة مريحة، ليس كثيرا. ربما هم ثلاثمائة، غالبيتهم صبايا وشابات، منهن من يلبسن الحجاب وأُخريات لم يفعلن. الشباب وبعض المتقدّمين في السن يهتفون عن الثورة والعدالة. وفي الأثناء، أهازيج وأغانٍ وإيقاعاتٌ رنّانة. جنود كثيرون من الجيش في محيط هؤلاء المحتشدين، وعناصر من أمن الدولة، أحدّث نفسي أن الأمر لا يستحقّ عددهم الزائد. الشابّة التي تحمل مكبر الصوت تؤكد استمرار الحراك الغاضب. لا تقول إلا عن ثورة. الشعارات والمكتوب على اليافطات "البطاقة الصحية حق لكل مواطن" و"لا للاقتصاد الريعي لا للاقتصاد المنتج" و"الشعب يريد عدالةً اجتماعيةً وكرامة إنسانية" و"الطبقة الحاكمة تعلم أين ذهبت الأموال المنهوبة". الساحة سمّوها ساحة "ثورة 17 تشرين". وأغنياتٌ يهتف بها المحتشدون، تقول إحداها بلسان امرأة "طالعة على الاعتصام.. طالعة تغير نظام". ثم أغنيةٌ عن حق المرأة أن تعيش بلا تحرّش، وفي أن تملك جسمها. ثم "بِدْنا نغضب .. بِدنا نثور" و"علّي صوتك علّي".
يبعث المشهد على الغبطة، سيما وأن الناس هنا فرحون بالثورة التي يصنعون. لا تلحظ في كل كلامهم ولو قِسطا من السياسة التي نألف ونعرف، عن حكومةٍ يلزم أن تتشكّل، عن أحزابٍ و"أفرقاء" وأقطاب. يُشهرون صيحاتِهم، هنا في ساحة إيليا في صيدا، كما في ساحاتٍ وشوارع وميادين عامرةٍ بالغضب والحنق، في بيروت وطرابلس والنبطية وغيرها، من أجل تعليمٍ واستشفاءٍ وبطاقاتٍ صحيةٍ ونظافةٍ وبيئةٍ سليمة. السهرية هنا في المدينة الرائقة، صيدا، ممتدّة قليلا. قبل اختتام الاعتصام، تُرفع الشموع مشتعلةً، في مشهدٍ ينطق الضوءُ فيه بما في حشايا اللبنانيين من أملٍ بحالٍ آخر، بل بدولةٍ أخرى على الأصح، وهم الذين احتملوا ما لم تحتمله شعوبٌ أخرى، بفعل ما فعلته مقادير التاريخ والجغرافيا ببلدهم الجميل حقا. يودّع المحتشدون الساحة بعد أغنياتٍ يدبكون مع إيقاعاتها، ويردّدون كلماتها، ويتمايلون مع ألحانها، أغنيات جوليا بطرس وغيرها.
الشوارع الهادئة في المدينة الوادعة في هذا المساء ضجّ بعضُها في الأيام السابقة بمسيرات غضبٍ واحتجاجاتٍ عريضة. تسمع ممن حدّثك أن هذا أصاب عمل المطاعم (للسمك وغيره)، وحركة البيع والشراء، بانحسار وتراجع. لعلّه حرص الناس وحذرها من أيامٍ أصعب متوقعة يجعلهم أكثر تحرّزا في الإنفاق والصرف. كأن ثمّة فائضا من الكهرباء هنا، في الشوارع وفي الكورنيش الطويل، من فرط الإنارة. السوق في المدينة القديمة مقفلٌ مبكّرا بعض الشيء. ثم وحدنا، أنا وصقر، في مطعم سمكٍ فارهٍ وفسيح، نأخذ عشاءنا، قبل أن نغادر إلى بيروت، ونواصل، في الأثناء وكيفما اتفق، دردشاتٍ لا تنتهي عمّا في لبنان، وفي العالم كله.
يبعث المشهد على الغبطة، سيما وأن الناس هنا فرحون بالثورة التي يصنعون. لا تلحظ في كل كلامهم ولو قِسطا من السياسة التي نألف ونعرف، عن حكومةٍ يلزم أن تتشكّل، عن أحزابٍ و"أفرقاء" وأقطاب. يُشهرون صيحاتِهم، هنا في ساحة إيليا في صيدا، كما في ساحاتٍ وشوارع وميادين عامرةٍ بالغضب والحنق، في بيروت وطرابلس والنبطية وغيرها، من أجل تعليمٍ واستشفاءٍ وبطاقاتٍ صحيةٍ ونظافةٍ وبيئةٍ سليمة. السهرية هنا في المدينة الرائقة، صيدا، ممتدّة قليلا. قبل اختتام الاعتصام، تُرفع الشموع مشتعلةً، في مشهدٍ ينطق الضوءُ فيه بما في حشايا اللبنانيين من أملٍ بحالٍ آخر، بل بدولةٍ أخرى على الأصح، وهم الذين احتملوا ما لم تحتمله شعوبٌ أخرى، بفعل ما فعلته مقادير التاريخ والجغرافيا ببلدهم الجميل حقا. يودّع المحتشدون الساحة بعد أغنياتٍ يدبكون مع إيقاعاتها، ويردّدون كلماتها، ويتمايلون مع ألحانها، أغنيات جوليا بطرس وغيرها.
الشوارع الهادئة في المدينة الوادعة في هذا المساء ضجّ بعضُها في الأيام السابقة بمسيرات غضبٍ واحتجاجاتٍ عريضة. تسمع ممن حدّثك أن هذا أصاب عمل المطاعم (للسمك وغيره)، وحركة البيع والشراء، بانحسار وتراجع. لعلّه حرص الناس وحذرها من أيامٍ أصعب متوقعة يجعلهم أكثر تحرّزا في الإنفاق والصرف. كأن ثمّة فائضا من الكهرباء هنا، في الشوارع وفي الكورنيش الطويل، من فرط الإنارة. السوق في المدينة القديمة مقفلٌ مبكّرا بعض الشيء. ثم وحدنا، أنا وصقر، في مطعم سمكٍ فارهٍ وفسيح، نأخذ عشاءنا، قبل أن نغادر إلى بيروت، ونواصل، في الأثناء وكيفما اتفق، دردشاتٍ لا تنتهي عمّا في لبنان، وفي العالم كله.