عندما يكون إعلان الانقلاب في السودان سهلاً وتثبيته مستحيلاً
أعلن قائد الجيش السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، الأسبوع الماضي، انقلابه العسكري، بعزل رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وتعطيل العمل ببنود في الوثيقة الدستورية التي تم التوصل إليها بشق الأنفس في صيف العام 2020، وفرض حالة الطوارئ، وحل مجلس السيادة، والعمل على تشكيل حكومة كفاءات وطنية. وكانت لهذا الانقلاب مقدّمات عدّة، تصاعد التوترات بين المكونين، العسكري والمدني، في السلطة الانتقالية، بسبب انتقاداتٍ وجهتها قيادات عسكرية إلى القوى السياسية، على خلفية إعلان الجيش، في أواخر سبتمبر/أيلول، إحباط محاولة انقلاب عسكري، والانتقادات التي وجّهها مدنيون إلى العسكر بالتواطؤ مع موجات الاحتجاج في ولايات في الشرق أو استخدام القوة ضد محتجين في أماكن أخرى.
لم يكن ينقص السودان مثل هذا الانقلاب، ليدخل في دوامةٍ جديدةٍ من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تفاقمت في ظل رئاسة البرهان مجلس السيادة، وتواطؤ جزء كبير من المكوّن العسكري مع مكوّنات من النظام السابق والحركات المسلحة، لتمرير اتفاق سلام جوبا الذي أربك كل الحسابات، وأطال عمر المرحلة الانتقالية وأدّى إلى تمديدها، وهو ما عرقل كل ترتيبات المرحلة الانتقالية، وأثار جدلا وانقساما بشأن هذه الترتيبات، بالإضافة إلى الجدل والانقسام الحاصل داخل قوى إعلان الحرية والتغيير وتجمع المهنيين، بخصوص الأدوار في المرحلة الانتقالية، وعملية تشكيل المجلس التشريعي وكتابة الدستور. يضاف إلى هذا الانقسام الحاد بين مكونات المكون العسكري ذاته؛ بين فريق يرى اتّباع اللين في التعامل مع الاحتجاجات لاستمالة الشارع، وفريق آخر يرى التعامل بقوة وحسم لاستعادة هيبة الجيش والدولة وإرهاب القوى المدنية ومن يطالبون بتحجيم دور الجيش.
الشارع السوداني وقواه الحية أعلنت مبكّرا الصمود والتحدّي في وجه هذا الانقلاب
صحب هذا الإعلان اعتقال قيادات سياسية عديدة لقوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين السودانيين، لكن الشارع السوداني وقواه الحية أعلنت مبكّرا الصمود والتحدّي في وجه هذا الانقلاب، وضغطت من أجل معرفة وضع عبد الله حمدوك. ويبدو أن هذه الضغوط كان لها صدى مسموع أكثر من بيان البرهان الذي اضطر إلى إعلان استضافته حمدوك في منزله، ثم أفرج عنه لاحقا ليوضع تحت الإقامة الجبرية في منزله.
صحيحٌ أنه لا يوجد طرفٌ واحد في الشارع السوداني الآن، فالمؤيدون للمكوّن العسكري في السلطة نصبوا خيامهم واعتصاماتهم واحتجاجاتهم، وهيأوا له بيئةً شبه مواتية لإعلان الانقلاب، باعتبار ذلك حلا لهذا الانقسام المصطنع جزئيا، والواقع أغلبه لأسبابٍ موضوعية. ولكن لا تزال قوى الثورة حيّة وحذرة، وتترقّب المصير المصري أو الليبي الذي قادت فيه الانقلابات إلى اضطراباتٍ شديدة، ودمّرت كل آمال قوى التغيير، وأحدثت ردّة ثورية، ولم تتجاوزها بعد إلى وضع مستقر، على الرغم من كل محاولاتها لإيصال ذلك للعالم.
من مظاهر هذا الزخم الثوري الحي، ليس فقط اعتراض وزراء وسفراء سودانيين عديدين على الانقلاب، والتصدّي له بكل قوة، بل إعلان غالبية القوى السياسية الحية المحسوبة على الثورة أن "الردّة مستحيلة"، وعن عصيان مدني شامل، لطالما نجحت قوى المعارضة السودانية في إنجاح الإضرابات والاعتصامات المماثلة في السابق.
يقابل هذا مشهد دولي يبدو أكثر تشدّدا حيال الانقلاب العسكري السوداني، فالأوروبيون والأميركيون الآن يبدون أكثر نضجا تجاه هذه الانقلابات، وهم منذ اللحظة الأولى للانقلاب، بل وقبله بأيام، حذّروا الأطراف كافة من أي خطوة أحادية قد تعرقل المرحلة الانتقالية في السودان. فالمبعوث الأميركي إلى القرن الأفريقي، جيفري فيلتمان، قبل أيام من إعلان الانقلاب، قام بجولاتٍ مكّوكية للقاء كل الأطراف، وحذّر من أية خطوة أحادية تخصّ المرحلة الانتقالية التي كان من المفترض، بموجب ترتيباتها، أن يسلم البرهان رئاسة مجلس السيادة للمدنيين، مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، لكن إعلان الانقلاب جاء بعد ساعاتٍ من إعلان المبعوث الأميركي عن تفاؤله بوجود مخرج للأزمة في السودان.
وقد أعرب الاتحاد الأوروبي، في أكثر من بيان، عن قلقه البالغ إزاء التطورات في السودان، داعيا إلى إعادة العملية الانتقالية إلى مسارها الصحيح، وعبّر عن ذلك الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل. وعلّق البنك الدولي مساعداته إلى السودان المأزوم اقتصاديا بشدّة، والباحث عن أية مصادر للتمويل الدولي. وحتى حدود 31 أكتوبر/تشرين الأول، فإن البرهان والقيادات العسكرية بدت منزعجة بشدّة من تصريحات بعض السفراء، حد إمهال السفير البريطاني 21 يوما لمغادرة البلاد.
القوى الإقليمية هي الأسوأ في مقاومة التغيير ومحاولة عرقلة أي حلول وسط قد تفضي إلى تقاسم سلطة مع عسكريين
وبدا الاتحاد الأفريقي أكثر صرامة من موقفه السابق إزاء ما جرى في مصر في العام 2013، إذ علق عضوية السودان حتى رجوع الحكومة المدنية، كما أوضح في بيان له أنه يدين بشدة "سيطرة الجيش السوداني على السلطة المدنية وحلّ الحكومة الانتقالية". ورحب الاتحاد بالإفراج عن رئيس الوزراء عبد الله حمدوك الذي أوقفه عسكريون في أول أيام الانقلاب وأفرجوا عنه بعدها بيوم، مع وضعه تحت الحراسة المشدّدة في منزله. ودعا الاتحاد إلى الإفراج الكامل وغير المشروط عن جميع المعتقلين، من الوزراء والمسؤولين والناشطين. ويبدو موقف الاتحاد الأفريقي متسقا أكثر مع سياسته في رفض الانقلابات العسكرية، وكذلك جهوده المضنية التي بذلها لتوصل الفرقاء السودانيين إلى الوثيقة الدستورية في أديس أبابا في أغسطس/آب من العام 2020 بشق الأنفس.
ولكن يبدو أننا إزاء مشهد إقليمي منفلت، تلعب فيه قوى الثورات المضادّة دورا تخريبيا منظّما وشديد التأثير أكثر من الأطر الدولية في المنطقة، وأكثر قدرةً على تعقيد الأزمات الإقليمية، والوقوف بقوة في وجه إرادات الشعوب، وأية تفاهمات مدنية عسكرية في المراحل الانتقالية، قد تفضي إلى أية تغييرات جدّية في بنية الدولة العربية في دول الموجات الثورية. بدا هذا واضحا جدا في عرقلة التطور الديمقراطي لمصر وتونس، وإدخال سورية وليبيا واليمن في متاهات، وتحويل ثوراتها إلى ما يشبه حرب الكل ضد الكل، لإعطاء نموذج سيئ للتغيير، يجب تجنّبه والحذر منه، وتعير الديكتاتوريات في المنطقة شعوبها به، باعتبارها أفضل منه.
وفي الحالة السودانية، منذ البداية أشارت تقارير دولية عدة إلى دفع دول في الإقليم ملايين الدولارات لشركات تحسين الصورة في الغرب وفي الولايات المتحدة، لتحسين صورة البرهان ونائبه حميدتي والقيادات العسكرية كافة. وفي محاولة للاستحواذ على الاقتصاد السياسي السوداني، بذلت هذه الأطراف الغالي والنفيس للسيطرة على المنافذ التجارية، مثل ميناء بورسودان، كما تستحوذ هذه البلدان الداعمة للانقلاب على ملايين الأفدنة في السودان، بعقودٍ شديدة الإجحاف.
صحيح أن قوى الثورة لا تزال حية وقادرة على قلب الطاولة على الجميع، ولكن لا ظهير إقليميا حقيقيا لها
صحيح أن قوى الثورة لا تزال حية وقادرة على قلب الطاولة على الجميع، ولكن لا ظهير إقليميا حقيقيا لها يمكن أن يقف في وجه محور الثورات المضادّة، بما يملكه من فوائض مالية واستثمارات ضخمة وشبكة نفوذ وولاء لدى النخب العسكرية والطبقية في المنطقة، وبما يجعل تفكيك هذه الشبكة أو تحييدها في أية عملية تغيير أمرا غاية في الصعوبة. ولكن وكما لوحظ في بداية الحراك ضد الرئيس المخلوع، عمر البشير، ليس لدى السودانيين ما يخسرونه في ظل الوضع الاقتصادي المتردّي. وبذلك، يمكن القول، مرة أخرى، إنه ليس لدى السودانيين ما يخسرونه، وصراعهم مع العسكر هو الأكثر وضوحا في هذه المنطقة البائسة من العالم، الانقلابات لا تحدُث وتتم وتستقر بالإعلانات، القوى الدولية لا تستطيع إجبار أي شعبٍ على قبول حاكم، والبقاء تحت طوعه وتسيير المؤسسات، رغما عن هذا الشعب. والقوى الإقليمية هي الأسوأ في مقاومة التغيير ومحاولة عرقلة أي حلول وسط قد تفضي إلى تقاسم سلطة مع عسكريين، وشبكات المصالح الاقتصادية والاجتماعية والطبقية، ناهيك عن إزاحتها، وهي تخوضُ حرباً صفرية مع الشعوب. وتبقى مشكلة هذه المنطقة الأكبر في نخبها وقيادات قواها السياسية المعارضة غير القادرة على بلورة سياسات اقتصادية واجتماعية وسياسات خارجية بديلة، على قدر الحدث الثوري، تحمى الثورات ومكتسباتها وترسخهما، وتكون قادرة على إيجاد تحالف تغيير إقليمي قوي، يستطيع إيقاف قوى الثورة المضادّة عند حدّها. ولكن السودان يبقى نموذجا قابلا لتقديم مثل هذه الرؤية وتطويرها، بالتعلم وكسر هذه القواعد بالقدرات التنظيمية الهائلة لديه، وإرثه الشديد البؤس مع الانقلابات العسكرية التي لم تُحدث تنميةً ولم تحقق سلاما ولا عدالة طوال عقود. ولذلك فإنهم قادرون على دحر هذه المحاولة الانقلابية وصمودهم في مليونية 30 أكتوبر، وقدرتهم على تنفيذ الإضراب، تبدو من الوضوح بمكان أنها تسير في هذا الاتجاه.