سورية... ماذا بقي من الدولة؟
تنفّذ إسرائيل طلعاتٍ جوية بطائرات مقاتلة أو طائرات من دون طيار منذ بدايات عام 2013 فوق الأجواء السورية، وقد طاولت ضرباتها دمشق وريفها، ووصلت إلى دير الزور في الشرق واللاذقية في الغرب، وتنوّعت أهدافها ما بين قوافل متحرّكة ومستودعات ومطارات أو ساحات تجميع أو حتى تجمّعات بشرية عسكرية. عجز النظام أمام كل تلك الهجمات التي تعدّ بالمئات عن وقفها أو الحدّ من تأثيرها، وامتدّ العجز ليشمل الجانب الرئيسي الذي تستهدفه الهجمات، وهو إيران وحزب الله، وكانت روسيا، وهي داعم أساسي من دعائم النظام، متفرجة في أحيان كثيرة، ولعلها تواطأت، في بعض الأوقات، مع الهجمات الإسرائيلية على أهداف فوق الأراضي السورية، وذلك بحسب الظرف السياسي بينها وبين الجانب الإيراني، فلم يكن داعما سورية الرئيسيان، روسيا وإيران، على وفاق تام خلال السنوات منذ بداية الصراع في سورية. ورغم أن الحرب الروسية على أوكرانيا ساهمت في استتباب العلاقات الروسية الإيرانية، إلا أن الهجمات الإسرائيلية لم تتوقّف، واكتفى الروس بمجرّد الفرجة، والتنديد الكلامي أحياناً، مع الوقوف على الحياد غالباً، معتبرين الهجمات الإسرائيلية جانباً من تصفيات الحسابات الإسرائيلية الإيرانية، ولا تخصّهم، ولا يجدون أنفسهم مضطرّين إلى وقفها أو حماية الإيرانيين منها. ويبدو أن إيران متفهّمة هذا الوضع، فهي ما زالت تدعم الروس في الحرب الأوكرانية، بصرف النظر عن الهجمات التي تتعرّض لها في سورية، والتي تمرّ فوق الدفاعات الروسية من دون اعتراض. وتمارس الدول الثلاث هذه اللعبة ضمن الأجواء الخاضعة "للسيادة السورية" التي لم يبقََ منها إلا بيانات إذاعية واهية تتكرّر منذ عشر سنوات.
ارتفع، في الأيام الماضية، مستوى خروج الأجواء السورية عن سيطرة النظام، وهذه المرّة لصالح الجانب التركي، فقد باشرت مسيّراته المتطوّرة طلعات جوية فوق المناطق الشمالية التي يسيطر عليها الكرد، وقصفت بشكل منتظم ومركّز منذ أيام مواقعهم ومراكز تجمّعاتهم العسكرية ومرافقهم الحيوية، ولا يبدو أنها تنوي التوقّف حالياً، وربما كان ذلك تمهيداً لجعل هذه الهجمات سلوكاً تقليدياً تردّ فيه تركيا على الكرد بمجرّد أن تجد فرصة سانحة لذلك أو ظهور هدفٍ دسم، أو ردّاً على هجماتٍ كردية إن حصلت. لا يمتلك الكرد وسائط دفاعية مناسبة لردع المسيّرات المهاجمة، ولا يبدو الجانب الأميركي مهتمّاً بالدفاع عن الكرد، وما أذيع عن درون تركي أسقطته القوات الأميركية حدث بعد أن أصبحت الطائرة على بعد خمسمائة متر فقط، وهي مسافة تعدّها القوات الأميركية خطرة، لذلك يمكن اعتبار إسقاط المسيّرة مجرّد دفاع عن النفس، وليس دفاعاً عن القوات الكردية. ولم يستنكر المتحدّث باسم الخارجية الأميركية الهجمات، بل دعا إلى وقف التصعيد فقط، مدركاً ما يمثله خطر حزب العمّال الكردستاني على الداخل التركي، وأبدت الخارجية الأميركية قلقاً على المدنيين، من دون التنديد بالهجوم، بمعنى أن الأجواء السورية أصبحت مسرحاً عاماً لأنواع عديدة من الهجمات، وتحت أنظار "الدول الكبرى" مباشرة من دون أن تكون هناك أية نية لوقفها.
فقدان الأجواء لصالح طيران أجنبي من نتائج سقوط الدولة السورية، بدأ الأمر بتجنّب الطيران المدني التحليق فوق الأجواء السورية، رغم تكبد شركات الطيران نفقات التشغيل وتكاليف التأمين، بينما مارس الطيران الإسرائيلي قصفه شبه اليومي، ووجد الطيران التركي في الأجواء السورية فرصة مناسبة لتصفية حساباته مع الجانب الكردي، لتأتي ضربة تهشيم العمود الفقري لجيش النظام بالهجوم على طلابه الذين يتخرّجون ضباطاً، سيخدمون في صفوف فرقه العسكرية، ومن طريق الجو وبواسطة درونات طائرة حلقت براحة وحرية فوق ساحة العرض، ونفّذت ضرباتها من دون أي مانع أرضي، ما أدّى إلى مقتل عشرات الأفراد. وبخسارة الأجواء بشكل مطلق، لم يبقَ من الدولة إلا هياكل هشّة يمكن أن يجهز عليها الوهن الاقتصادي الكبير.