سياسات الهجرة غير النظاميّة والتوطين في تونس
حظي موضوع هجرة الأفارقة من جنوبِ الصحراء إلى أوروبا، مروراً بالأراضي التونسيّة، وسُبل الحدّ منها، باهتمامِ قمّة الدول الصناعية السبع في منتصف يونيو/ حزيران الجاري في بورغو إغنازيا، بمقاطعةِ بوليا الإيطالية، ما قد يكون دافعاً وراء دعوة الرئيس التونسي، قيس سعيّد، الذي اختارَ أن يمثّله رئيس حكومته، أحمد الحشّاني، فقد باتَ لافتاً تدفّق الأفارقة الكثيف إلى تونس، وما عرفه من تنامٍ جليّ، وتأثيرٍ خطيرٍ على المجتمع والدولة، ورفض معلن وخشية واضحة من المواطنين التونسيين. برزت تلك الخشية، خصوصاً في معتمديتي العامرة وجبنيانة من ولاية صفاقس، وأين بدأت تظهر مخيّمات وأحياء خاصّة بالأفارقة، تنتشرُ بغاباتِ الزياتين وقرب السواحل البحرية طمعاً وتخطيطاً للظفر بعملية "حرقة" الهدف من ورائها الوصول إلى السواحل الإيطالية، ويقع الحديث كذلك عن أسواقٍ خاصة بالأفارقة ومحاكم تُنتصب وأحكام تصدر، ومليشياتٍ تمارس العنف وتلعب دور الضبط، ومقابر عشوائية جرى العثور عليها، فضلاً عن تهديدِ بعضهم المواطنين التونسيين وارتكاب جرائم واعتداءات.
جعل هذا الأمر من وجودِ أفارقة جنوب الصحراء في تونس مادّة إعلامية واتصاليّة عابرة للساعاتِ والأيّام والأشهر، ذات حظوة في نشراتِ الأخبار ومنابر الحوار، ومركز اهتمام رئيسي لدى جمعيّات المجتمع المدني الحقوقية، المُتهم بعضُها بإيوائهم وتمويلهم وتسهيل إقامتهم، ما أدّى إلى الاعتقالِ والسجن والمحاكمة، كما الأمر بالنسبة لرئيستي جمعيتي "تونس أرض اللجوء" و"منامتي". ما دفع القوى السياسية الحزبيّة إلى التداول في خطورةِ الوجود الكثيف للأفارقة في مدنٍ وقرى تونسيّة كثيرة، وتحميل المسؤوليات للجهات الرسميّة الحكومية والرئاسية، التي التزمت مع السلطات الإيطالية باتفاقياتٍ مشتركة، لا تخلو من منزعٍ توطيني، تكتّم عليها الطرف التونسي، ولكن الطرف الإيطالي لم يستطع إخفاءها على مواطنيه وعلى البرلمان ووسائل الإعلام، فانكشف أمرُها وذاعت تفاصيلها وخفاياها.
ضمن هذا السياق المُلتبس والمشحون بردودِ الأفعال المحليّة المتوجسّة من المهاجرين الأفارقة، والإقليمية والدولية، التي تتهم السلطات التونسية بالعنصرية وعدم احترام الحقوق الإنسانية، أكّد الرئيس التونسي، قيس سعيّد، في أثناء استقبال رئيسة مجلس الوزراء الإيطالية، جورجيا ميلوني، مرفوقةً بوفدٍ حكومي عالي المستوى، يوم 17 إبريل/ نيسان الماضي، من السنة الجارية بقصر قرطاج، موقفه الرافض أن تكون تونس مستقرّاً أو معبراً للمهاجرين غير النظاميين.
تحقّق للسلطات الإيطالية ما أرادت ولرئيسة الحكومة الإيطالية ما خطّطت له، أي جعل تونس تمنع وصول تونسيين وأفارقة من جنوب الصحراء، وآخرين من جنسياتٍ مختلفة
كما أشرف سعيّد على مجلس الأمن القومي يوم 7 مايو/ أيار 2024، بحضور رئيس الحكومة ووزراء الدفاع الوطني والداخلية والعدل والمالية والتجارة ومحافظ البنك المركزي ورئيس مجلس النواب وقادة الجيوش وقيادات الأمن والحرس الوطنيين، متناولاً مسألة الهجرة غير النظامية إلى تونس، بالقول "الأفارقة الذين يأتون إلى تونس ليسوا اليوم أكثر بؤساً مما كانوا عليه في السابق. وهناك في تونس سنة 2018 من تحصّل على ملايين الدولارات أو اليورو لتوطينهم في تونس، ومرّة أخرى، أقول على رؤوس الملأ وأقولها للعالم كلّه إن تونس لن تكون أرضاً لتوطين هؤلاء، ولن تكون مقرّاً لهم، ونعمل على أن لا تكون أيضاً معبراً لهم".
وقبل سنة من عقدِ مجلس الأمن القومي اجتماعه بشأن معضلةِ المهاجرين الإفريقيين غير النظاميين، صرّح الرئيس التونسي، على هامش زيارة تجمّعات عشوائية لمواطنين أفارقة في صفاقس يوم 11 يونيو/ حزيران 2023، قبل يوم من زيارة قادة أوروبيين إلى تونس، قائلاً "لا يمكن أن نقوم بالدور الذي يفصح عنه بعضهم ويخفيه البعض الآخر، لا يمكن أن نكون حرساً لدولهم". وفي الفترةِ نفسها، كانت النقاشات والسجالات بين الإيطاليين، عن المهاجرين النظاميين الذين يصلون من تونس إلى جزيرة لمبيدوزا وبقية السواحل الإيطالية، قد بلغت أوجها. نشرت صحيفة الواقع اليومي Il Fatto Quotidiano الإيطالية مقالاً في 15 فبراير/ شباط 2024 بعنوان "خطة ماتيي، ميلوني تريد نموذج كايفانو أيضاً في ليبيا وتونس، دعونا نذهب إلى هناك ونشعر بأنفسنا". يكشف المقال الإحاطة المقدّمة من رئيسة الحكومة ميلوني إلى مجلس الوزراء الإيطالي فيما يتعلّق بسياسات الهجرة المعتمدة، القائمة على فكرة "خطّة ماتيي" لبلدان منشأ القوارب التي تعبر البحر الأبيض المتوسط باتجاه سواحل صقلية. وهي خطّة مُستوحاة من مقاربةِ الحكومة للقضاء على الجريمة المنظمّة في ضواحي نابولي. قالت ميلوني "نحن بحاجة إلى مراقبة الأمور عن كثب. ولهذا السبب، أحتاج إلى الحكومة بأكملها. يمكنني أن أتصوّر "نموذجاً كايفانو" لشمال أفريقيا، سواء من الناحية العملية أو من الناحية الإعلامية، خاصة بالنسبة لتونس وليبيا". كانت ميلوني تصم الأراضي التونسيّة بأنّها مناطق خاضعة للجريمة المنظمّة من دون أدنى تنسيب في أقوالها، من خلال تشبيهها بكايفانو، البلدة في ضواحي نابولي، وهي مشهورة بأنّها تحت سيطرة المافيا المحليّة ومسرحٌ لجميعِ أنواع الانتهاكات، بما في ذلك الاتجار بالمخدّرات والعنف والسلاح.
تحقّق للسلطات الإيطالية ما أرادت ولرئيسة الحكومة الإيطالية ما خطّطت له، جعل تونس تمنع وصول تونسيين وأفارقة من جنوب الصحراء، وآخرين من جنسياتٍ مختلفة، إلى السواحل الإيطالية. وبذلك تلعبُ، رغبتْ أم أبتْ، دورَ حارس أوروبا، فاستشرت الفوضى والجريمة في بعض تجمّعاتِ المهاجرين الأفارقة غير النظاميين، وباتتْ تلك التجمّعات تستعصي أحياناً على قوّات الأمن التونسية تجنّباً للصدام، فصارت قابلة للمقارنة ببلدة كايفانو الإيطالية، وإذا استوجب التدخّل الأمني، فمن أجل نقل بعض المجموعات من مكانٍ إلى آخر أو فضّ بعض الاعتصامات، مثل اعتصام حديقة البحيرة بتونس العاصمة، القريب من المقرّ الرئيسي للمنظمة الدولية للهجرة، يوم 3 مايو/ أيار 2024، وإبعاد المعتصمين الأفارقة إلى مدينة جندوبة بالشمال الغربي التونسي، أو إخلاء تجمّع آخر للأفارقة على مقربةٍ من المقرّ الفرعي للمنظمة نفسها في منطقة صانغو التي تبعد 11 كلم شمال مدينة جرجيس التي يفصلها 70 كلم على الحدود التونسية - الليبية، وتحويلهم إلى مركز إيواء جرى تسويغه حديثاً في منطقة الجدارية المتاخمة، يتسع لـ500 مهاجر.
الخطّة الإيطالية
تحوّلت الخطّة الإيطالية إلى أمرٍ واقع، بأهدافها المرسومة من رئيسة الحكومة الإيطالية التي جعلت من تقليص عدد المهاجرين غير النظاميين إلى بلدها وإلى أوروبا تاج برنامجها الانتخابي، وهو ما مكّنها من الوصول إلى السلطة سنة 2022، وأتاح لحزبها فرصة الفوز في الانتخابات الأوروبية قبل أسبوع. فقد استجابت إيطاليا للمطلب التونسي، في الاجتماع الأمني المشترك ليوم 30 أكتوبر/ تشرين الثاني 2023، بعد أن جدّدت السلطات التونسية طلبها للحصول على الدعم المالي لسدادِ قيمة الوقود للوحدات البحرية العاملة في مجال مكافحةِ الهجرة غير النظامية، فجرى تخصيص تسعة ملايين يورو (4,5 ملايين يورو لسنة 2024 و 4,5 ملايين يورو لسنة 2025)، و 4.8 ملايين يورو لتجديد ونقل ست وحدات بحريّة مستخدمة من الحرس الإيطالي إلى الحرس البحري التونسي، وقد نُشرت جميع التفاصيل المتعلّقة بالتمويل الإيطالي، في أوامر صادرة عن إدارة الأمن والإدارة المركزيّة للهجرة وشرطة الحدود بوزارة الداخلية الإيطالية، مترجمة ترجمة عملية محتويات "المحضر الموقّع من السلطات الإيطالية والتونسية في 14 ديسمبر 2023"، ويمكن معاينة تلك الأوامر في نسختها الإيطالية على موقع المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ضمن ملاحق بيان بعنوان "ميلوني في تونس تدعيماً لسياسات تونس مصيدة المهاجرين" المنشور في 16 إبريل/ نيسان 2024.
وبفضل الدعم المالي الإيطالي، أعاد الحرس البحري التونسي 14562 مهاجراً إلى الأراضي التونسية، بعد اعتراضهم في البحر، وذلك من 1 يناير/ كانون ثاني إلى 15 إبريل/ نيسان 2024، وعرفت موجات الهجرة غير النظامية انطلاقاً من السواحل التونسيّة تراجعاً يقدّر بـ 60% مقارنة في الفترة نفسها من سنة 2023، وفق ما أعلنت عنه رئيسة الحكومة الإيطالية، جورجيا ميلوني، مطلع شهر يونيو/ حزيران الجاري، ويعود الفضل في ذلك حسب بيان أصدرته ميلوني إلى "الاتفاقيات الموقعة مع دول شمال أفريقيا، وخصوصاً تونس وليبيا".
شكّلت سياسات الهجرة المتبعة، والتشريعات التي سُنّت حديثاً، الأرضية الخصبة لتحوّل توطين أفارقة في تونس إلى حقيقة لا غبار عليها
وكان من نتائج ما جرى الاتفاق بشأنه أنّ الرئيس سعيّد أصدر الأمر الرئاسي عدد 181 المؤرّخ في 5 إبريل/ نيسان 2024، من 11 فصلاً، لإثبات حسن نيّته في تنفيذ الاتفاقيات بحذافيرها، ويحمل هذا الأمر كلّ مواصفات القانون، من دون تمريره إلى مجلس النواب التونسي للمصادقة عليه. ويهدف الفصل الأوّل من هذا الأمر "إلى تنظيم البحث والإنقاذ للأشخاص المكروبين بالبحر"، ومن خلال تعريف بعض المصطلحات حدّد الفصل الثاني وظيفة الجانب التونسي كالتالي: البحث: عملية تهدف إلى الاستدلال على الأشخاص المكروبين بالبحر يتولى تنسيقها المركز الوطني لتنسيق عمليات البحث والإنقاذ البحريين أو المراكز الفرعية. الإنقاذ: عملية انتشال أشخاص مكروبين بالبحر وتلبية احتياجاتهم الأوليّة الطبيّة أو غير الطبيّة ونقلهم إلى مكانٍ آمن. خدمة البحث والإنقاذ: أداء وظائف الرصد والاتصال والتنسيق والبحث والإنقاذ في حالةِ الاستغاثة، بما في ذلك تقديم المشورة الطبيّة أو المساعدة الطبيّة الأوليّة أو الإجلاء الصحي، باستخدام الوسائل العامة والخاصة المتاحة.
وكلّف الفصل الثالث "آمر المصلحة الوطنية لخفر السواحل المحدثة بمقتضى الأمر عدد 101 لسنة 1970 المؤرّخ في 23 مارس/ آذار 1970، بمهام السلطة الوطنية المسؤولة عن خدمات البحث والإنقاذ البحريين ويتولى للغرض خاصة السهر على حسن سير خدمات البحث والإنقاذ البحريين والقيام بمهام نقطة الاتصال وطنيًا ودوليًا في مجال البحث والإنقاذ البحريين واقتراح إبرام اتفاقيّات بخصوص التعاون والتنسيق في هذا المجال مع الدول الأخرى". وأُحدث بموجب الفصل الرابع "المركز الوطني لتنسيق عمليات البحث والإنقاذ البحريين"، الذي يستعين في ممارسة مهامه، حسب مقتضيات الفصل الخامس بـ "ثلاثة مراكز فرعية للبحث والإنقاذ تابعة للمصلحة الوطنية لخفر السواحل وأربعة مراكز فرعية للبحث والإنقاذ تابعة للإدارة العامة للحرس الوطني".
وبمقتضى الفصل الخامس أيضاً، أصبح من مسؤولية "الوحدات البحرية والجويّة التابعة لوزارة الدفاع الوطني ووزارة الداخلية والوزارات المكلفة بالنقل والديوانة والصيد البحري، والطائرات وسفن الدولة التونسية والسفن الحاملة للراية التونسية الموجودة بالبحر والقادرة على المشاركةِ في عمليّات البحث والإنقاذ البحريين عن طريق التسخير، والسفن التابعة لمؤسّسات المساعدة والإنقاذ البحري والجرّ عن طريق التسخير، والسفن والطائرات الأجنبية الموجودة بمنطقة المسؤولية للبحث والإنقاذ التونسيّة والقادرة على المشاركة في عملياتِ البحث والإنقاذ البحريين عن طريق التسخير، وكلّ وسيلةٍ أخرى يرى ضرورة في استعمالها وتسخيرها لتنفيذ عمليات البحث والإنقاذ البحريين"، إنقاذ كلّ كائن بشري، فرداً أو جماعة، يركب البحر الأبيض المتوسط، بطريقةٍ غير قانونيّة، داخل مياه تونس الإقليمية أو في تخومها الدولية.
صدّق التونسيون خطاب الهجرة الرئاسي التونسي المناهض للتوطين، لكنهم لم يلمسوا سياسات عملية تترجمه على أرض الواقع وفي معيشهم اليومي
الأمر الرئاسي عدد 181، كما التزمته تونس في الوثيقة التي تقدّمت بها إلى اللجنة الفرعية للملاحة والاتصالات والبحث والإنقاذ التابعة للمنظمة البحرية الدولية يوم 2 إبريل/ نيسان 2024، بعنوان "تطوير البحث والإنقاذ البحري العالمي بما في ذلك مواءمة الإجراءات البحرية والجوية وإدخال تعديلات على دليل إيمسار"، وقد جاءت متضمنة الخريطة البحرية الجديدة للتدخل البحري التونسي، الذي يتجاوز المياه الإقليمية التونسية التقليدية. هو (الأمر الرئاسي) منّة من الرئيس قيّس سعيّد للسلطات الإيطالية والأوروبية التي كانت تُعاني من وصمِ انعدام الإنسانية، وتلقى مقاومة كبيرة واحتجاج الجمعيات المناصرة للمهاجرين في أوروبا، فإذا بتلك الجموع تُلتقف في البحر قبل بلوغها الشواطئ الأوروبية، ويجري "تكديسها" على الأراضي التونسيّة، مشكّلةً بؤراً وتجمّعات، يضاف إليها كلّ يوم أفراد جدد وجماعات أخرى، تكون قد اعترضتهم الجهات الأمنيّة التونسية في البحر وأدخلتهم أحد الموانئ التونسية، أو دخلوا تونس من الحدودِ الغربية مع الجزائر أو الشرقية مع ليبيا.
لقد شكّلت سياسات الهجرة المتبعة، والتشريعات التي سُنّت حديثاً، الأرضيّة الخصبة لتحوّل توطين أفارقة جنوب الصحراء في تونس إلى حقيقةٍ لا غبار عليها، وفق خطّة معدّة سلفاً، كشف بعض خيوطها مقال الصحافية التونسية كوثر زنطور "معطيات مهمّة كشف عنها وزير الداخلية السابق قبل إقالته: مجلس الجيوش صادق على خطّة لتشديد غلق الحدود الغربية والشرقية"، المنشور في صحيفة الشارع المغاربي يوم 11 من شهر يونيو/ حزيران الجاري. معالم تلك الخطة، وفق ما بيّن معالمها وزير الداخلية السابق، كمال الفقّي، في جلسةٍ مغلقةٍ للجنة العلاقات الخارجية والتعاون الدولي وشؤون التونسيين بالخارج والهجرة، بمجلس نواب الشعب، يوم 20 الشهر الماضي (مايو/ أيار)، وأكّدها النائب ياسين مامي في إذاعة موزاييك المحليّة، وذلك قبل خمسة أيام من إعفاء الوزير من مهامه. وتقوم الخطّة على إيقاف تدفّق المهاجرين وسدّ منافذ البحر لـ "ربح أصدقائنا" على حدّ قول وزير الداخلية السابق، في إشارةٍ للأوروبيين، مشبّهاً تدفق المهاجرين إلى أوروبا عبر البحر بـ "الفانا"، وهو مصطلح استعمل في احتجاجات الكامور بالجنوب التونسي سنة 2016 ومنع البترول والغاز من التدفّق، ويقصد الوزير بذلك عدم ترك المهاجرين غير النظاميين يصلون إلى إيطاليا في هذه الفترة، حتى لا يستفيد أقصى اليمين في انتخابات البرلمان الأوروبي، معتبراً أنّ تسرّب الأفارقة من جنوب الصحراء إلى تونس انطلق سنة 2006 من بوابةِ الدراسة في تونس، بهدف التعرّف إلى البلاد والتمركز فيها. يُنسب للوزير السابق أيضاً قوله إنّ مجلس الجيوش الثلاثة أقرّ خلال اجتماع مجلس الأمن القومي خطة أمنيّة اقترحتها وزارة الداخلية لإدارةِ أزمة المهاجرين غير النظاميين، تقوم على تشديدِ غلق الحدود الغربية مع الجزائر والشرقية مع ليبيا لمنعِ تدفّق المهاجرين إلى تونس، مع مواصلةِ غلق المنافذ البحرية، وأنّ اتفاقاً حصل بين وزارتي الداخلية التونسية والجزائرية، مفاده ضرورة تطوير الولايات والقرى الحدودية حتى تكون جاذبة للجزائري وللأفريقي، وهذا الأمر يُستشفّ منه رغبة رسميّة تجعل من تلك المناطق مراكز إيواء مفتوحة للمهاجرين الأفارقة من دول جنوب الصحراء.
إدماج وازدواجية
بالتوازي مع ما ذكره وزير الداخلية السابق، تقدّم يوم 16 الشهر الماضي (مايو/ أيار) النائبان بالبرلمان التونسي ريم الصغيّر وأسماء الدرويش بمذكّرة تتضمّن مقترحاً توجهتا به إلى رئيس الحكومة التونسيّة عن طريق رئيس مجلس نواب الشعب لتسويةِ ملف الأفارقة والمناولة، من أبرز ما جاء فيه "يتمّ إدماج نسبة من الأفارقة طالبي اللجوء ضمن شركات المناولة، وتوظيفهم في اليد العاملة لمشاريع تونس 2030/2050 وإدماجهم في الدورة الاقتصادية للبلاد التونسية، ويمكن أن تنطلق التجربة من العامرة وجبنيانة عبر إيجاد شركات للخدمات الأفريقية بإشراف شركات ورجال أعمال بصفاقس. نفى النائبان وجود علاقة لمبادرتهما بفكرةِ التوطين، مقترحتين ألّا تتجاوز العقود الممنوحة 20 سنة حدّاً أقصى، وبعد ذلك تتولى الدولة ترحيل من استوفى تلك المدّة، ومع ذلك فقد لقيت الفكرة حملة واسعة من التندّر والاستهجان على مواقع التواصل الاجتماعي وتمّ وأدها في المهد.
مارس الرئيس قيّس سعيّد ازدواجية الخطاب في معالجته معضلة هجرة الأفارقة غير النظاميين الكثيفة التي تشهدها تونس، فهو من جهةٍ يؤكّد رفضه أن تكون تونس أرض توطين أو عبور. ومن ناحيةٍ ثانية، يمارس سياسات ويسنّ تشريعات ويمضي اتفاقيات، تساعد على تنامي المهاجرين الأفارقة وتوسّع وجودهم في تونس، وذلك مقابل وعود مالية إيطالية وأوروبية زائفة، أو محدودة، لا تتلاءم مع حجم التنازلات السيادية والخدمات التي تقدّمها الحكومة التونسية للطرفين الإيطالي والأوروبي.
الأجدر بالرئيس سعيّد أن يعترف بفشل سياسات الهجرة التي انتهجها
لقد صدّق التونسيون خطاب الهجرة الرئاسي التونسي المناهض للتوطين، لكنهم لم يلمسوا سياسات عملية تترجمه على أرض الواقع وفي معيشهم اليومي، فلا الدولة التونسيّة تركت المهاجرين غير النظاميين يمرّون إلى أوروبا عبر البحر المتوسّط، ولا هي قادرة مالياً ولوجستياً على إعادتهم إلى بلدانهم، هذا علاوة على دورها في جلبهم من البحر المتوسّط، وعجزها على مراقبةِ الحدود ومنع تدفّقهم. وزيادة على كلّ ذلك فإنّ الحكومة التونسية تمنع منعاً باتاً العمل على كلّ الأفارقة ممن لا يتمتّعون بتسويةِ وضعهم القانوني، وتحجّر تمكينهم من تسويغ محلّات للسكنى، ونقلهم بوسائل النقل التونسية الخاصة والعمومية، بما تمثله تلك الإجراءات من حرمان واضطهاد، دون مراعاة لوضعهم الإنساني وحقوقهم وحاجياتهم، خاصة أنّ كثيرين منهم قدموا إلى تونس هروباً من بؤرِ التوتّر وعدم الاستقرار والحروب، مثل النيجر والسودان، وفي كلّ يوم تنشر الصحف التونسية ومواقع التواصل الاجتماعي أنباء العقوبات والإجراءات الزجرية المسلّطة على من لا يلتزم الإجراءات القانونية المعمول بها، ومن بينها عقوبات سالبة للحريّة وخطايا المالية.
وهذه السياسات لا تفاقم من تردّي وضع المهاجرين الأفارقة فقط، وإنّما ايضاً تمهّد الطريق أمام انتشار السلب والنشل والسرقة ومختلف أنواع الجريمة في صفوفهم، مما يساعد على تنامي الخوف وضعف الشعور بالأمان، لدى سكان المدن التونسية، التي تحوّلت تخومها إلى تجمّعاتٍ ومخيّماتٍ للمهاجرين الأفارقة غير النظاميين، وإلى فضاءاتٍ لا تخلو من تمرّد على الدولة وقوانينها.
والأجدر بالرئيس سعيّد أن يعترف بفشل سياسات الهجرة التي انتهجها، وما صاحبها من تصريحاتٍ، كان بعضها وراء تأزيم علاقات تونس بدول ومنظّماتٍ أفريقية، وأن يبحث عن بدائل وخيارات تحدّ من انتشار الظاهرة وتفاقم أضرارها على التونسيين، قبل أن تستحيل عنوان أزمة هيكلية مزمنة ذات مخاطر أمنية وجيو- سياسية، تستعصي على الحلّ، تستغلّها القوى النافذة دولياً للتدخّل في الشأن الوطني التونسي.