"سيف القدس" ونهاية السلام الفتاك والنصر الاستراتيجي
"سيف القدس" ليس مجرّد مصطلح مركّب سينتبذ له مكاناً قصياً في معاجم اللغة العربية، ونظيراتها من مختلف لغات الشعوب والأقوام، وإنّما هو المعنى والدلالة التي تحيل إلى تحوّل جذري ستعرفه الإنسانية في مقبل الأيام، تنسج خلاياه هذه المرّة فلسطين، بدلاً من الصهيونية العالمية ذات النفوذ الثقافي والهيمنة في إنتاج الرموز وتسويقها إعلامياً واتصالياً، وحتى أكاديمياً، كما هو الحال منذ عقود طويلة خلت.
انتصار فلسطين وفصائلها المقاتلة في معركة "سيف القدس" الذي جاء نصرة للمسجد الأقصى، الذي انتهكته فلول المستوطنين وقطعانهم وقوات الجيش الصهيوني في أكثر من مناسبة، ودفاعاً عن حق المصلين في التزام شعائر دينهم الحنيف في شهر رمضان الكريم، وردّاً على تهجير فلسطينيين من سلوان وحي الشيخ جرّاح من منازلهم في حاضرة القدس العتيقة التي ورثوها عن أجدادهم وأسلافهم والاستيلاء عليها، غصباً من مالكيها وسكّانها الأصليين، بواسطة أحكام قضائية جائرة صادرة عن المحكمة العليا الصهيونية.
معركة "سيف القدس" هي رمز وحدة فلسطين والفصائل الفلسطينية المقاتلة، على الرغم من اختلافاتها الأيديولوجية والسياسية، ولعبة المصالح التي قد تفرّقها
ظنّ أباطرة النظرية الصهيونية أنّ سبعة عقود من الاحتلال والتهجير والقتل على الهوية و"الجينوسيد" (الإبادة) ونظام الأبارتهايد الذي مورس على شعب فلسطين، وتدمير جيوش دول الطوق العربية، وفرض معاهدات سلام مخلّة ومختلة على بعضها، كانت كافيةً للتخلص من الهوية الفلسطينية التي حملها يوماً كبار السن، والمراهنة على فقدان الذاكرة لدى الأجيال الجديدة، لا سيما فلسطينيي 1948، ونسيان قضية وطنهم المغتصب والاستسلام للعدو الغاصب المحتل، والاندماج في المجتمع الصهيوني الجديد، فإذا بالشعب الفلسطيني، بكلّ شرائحه وفئاته العمرية والاجتماعية، في كلّ الأراضي المحتلة وفي الضفة الغربية وقطاع غزّة، وحتى في الشتات، ينهض من الرماد كطائر الفينيق، وتنبعث فيه الحياة وروح المقاومة والإرادة والرغبة القديمة في التحرير تحت راية "سيف القدس" كما كانت أول مرّة لحظة وعد بلفور أو الهجرات الصهيونية زمن الاحتلال الإنكليزي لفلسطين، وقرار تقسيمها وإقامة الدولة الصهيونية سنة 1948، فالانتماء إلى فلسطين ليس جنسية، وإنّما هوية نضالية.
معركة "سيف القدس" هي رمز وحدة فلسطين والفصائل الفلسطينية المقاتلة، على الرغم من اختلافاتها الأيديولوجية والسياسية، ولعبة المصالح التي قد تفرّقها، فقد اجتمعت في خندق واحد، وفي غرفة عمليات مشتركة في قطاع غزّة، كتائب القسام (حركة المقاومة الإسلامية) وسرايا القدس (الجهاد الإسلامي) وألوية الناصر صلاح الدين وكتائب أبو علي مصطفى (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) وكتائب المقاومة الوطنية (الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين) ولواء نضال العامودي وكتائب الأنصار (مجموعة منشقة عن حركة فتح) وكتائب المجاهدين (فصيل منشق عن حركة فتح) وكتائب عبد القادر الحسيني (فصيل مسلح يتبع حركة فتح) وكتائب الشهيد جهاد جبريل (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة) وجيش العاصفة، ومجموعات الشهيد أيمن جودة، وتنظيم مناورات عسكرية مشتركة والاستعداد والجهوزية لما قد يندلع من معارك مع الجيش الصهيوني.
اتفاقيات أوسلو أسقطتها الانتفاضة المقدسية، وجعلتها نسيا منسيا، فمن سيعترف باتفاقيات عديمة الروح والمعنى، بعدما أمطرت المقاومة الفلسطينية عاصمة الدولة الصهيونية بالصواريخ؟
انتفت في "سيف القدس" الفروق بين الفصائل المسلّحة الفلسطينية، وذابت الصراعات الزعاماتية بين الفصائل، بما أنّ الهدف واحد، تحرير فلسطين من الهيمنة الصهيونية واسترجاع القدس عاصمة لها. أما عن اتفاقيات أوسلو فقد أسقطتها الانتفاضة المقدسية، وجعلتها نسيا منسيا، فمن سيعترف باتفاقيات عديمة الروح والمعنى، بعدما أمطرت المقاومة الفلسطينية عاصمة الدولة الصهيونية بالصواريخ، واضطرّ رعايا تلك الدولة إلى التزام الملاجئ خوفاً من الموت، وأُغلقت مطاراتها ومجالها الجوي، واستنجد رؤساء بلديات صهاينة بالجيش الصهيوني لاسترجاع مدنهم، بعدما سيطر عليها فلسطينيون حيزاً زمنياً معيناً، على غرار ما حدث في مدينة اللدّ الفلسطينية.
ولد ميتاً اتفاق أوسلو الذي صيغت بنوده بعد العدوان الأميركي - الأطلسي المتعدد الجنسيات، بمشاركة 39 دولة، على العراق، سنة 1991، وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي وظهور القطب الواحد الذي تقوده الولايات المتحدة. فقد وصفه الكاتب السوري محمد خليفة، في كتابه "السلام الفتّاك..." (مركز الحضارة العربية للإعلام والنشر، القاهرة، 1995)، بأنّه الاتفاق الذي أنتج سلاماً أشدّ هولاً من الحروب، وهو نتاج لدور الماركنتيلية الفلسطينية على حساب تياري المثقفين والسياسيين والمقاتلين والكوادر العسكرية، و"لانتشار قيم البزنس والاستهلاك والبحث عن الثروة مقابل القيم الوطنية والارتباط بالأرض". وقد علّق إدوارد سعيد على حفل توقيع الاتفاق: "إنّ كلّ فلسطيني شاهد وسمع وقائع احتفال البيت الأبيض شعر بأنّ مائة عام من التضحيات والكفاح البطولي لم تثمر شيئاً في نهاية الأمر، بل أعطت الكلمتان انطباعاً بأنّ الفلسطينيين كانوا متجنّين على الإسرائيليين وهم يعتذرون لهم، إنّ كلمة ياسر عرفات توحي كأنّه توصل إلى عقد إيجار لا اتفاق سلام"، خصوصاً أنّ "الاتفاق أسقط كلّ الفقرات والمواد التي تصف إسرائيل بأنّها احتلال أو اغتصاب أو دولة قامت بالقوة على أرض فلسطين الواردة في الميثاق الوطني الفلسطيني". وتُرجم ذلك في البند الثامن من نص اتفاق أوسلو بما يلي: "مستقبل الكيان الفلسطيني سيظل مرتبطاً بل مرتهناً لاعتبارات الأمن الإسرائيلية، فهو سيكون مجرّداً من القوة العسكرية وسيكون الدفاع الخارجي من اختصاص جيش إسرائيل وسيكون من اختصاص سلطات الأمن الإسرائيلية التدخل أيضاً لحماية المستوطنين والمواطنين الإسرائيليين في مناطق الحكم الذاتي بل لحماية النظام العام" .
تأكد النصر بوحدة الفلسطينيين في الداخل والضفة والقطاع والشتات، وظهور نوع من توازنات القوة والردع بين المقاومة الفلسطينية والمجتمع العسكري الصهيوني
اعتقد مهندسو مؤتمر مدريد سنة 1991، خصوصاً الولايات المتحدة، والذي أقر مبدأ اتفاق أوسلو أنّ الصهيونية انتصرت نهائياً، وأنّ الحق الفلسطيني قد سقط، وعلى منظمة التحرير الفلسطينية قبول الأمر الواقع. لكنّ هذه الفكرة تأكد تهافتها بعد سبع سنوات من التوصل إلى بروتوكول الاتفاق في العاصمة النرويجية سنة 1993، فقد انهزمت الدولة العسكرية الصهيونية هزيمة ساحقة في لبنان على يد المقاومة الوطنية اللبنانية، وانسحبت سنة 2000 من الجنوب اللبناني بصفة نهائية، ثم انهزمت هزيمة نكراء ثانية في غزّة، وانسحبت منها سنة 2005، ليعلق في الذاكرة الجماعية قول رئيس الحكومة الصهيونية آنذاك، آرييل شارون، إنّه كان يتمنى أن يفيق صباحاً ويجد غزّة قد ابتلعها البحر. خاض الجيش الصهيوني حرب يوليو/ تموز ضد المقاومة اللبنانية، محاولاً العودة إلى لبنان سنة 2006، لكنّه انهزم، ومارس السياسة العسكرية نفسها مع غزّة والفصائل الفلسطينية المقاتلة في السنوات 2008 و2012 و2014.
كانت تلك المعارك مقدّمات نصر عربي وفلسطيني استراتيجي، يقوم على انحسار الدولة الصهيونية التي ستقوم، على حدّ قول مهندسها الصهيوني الأول ثيودور هرتزل، على المنطقة الممتدة من الفرات إلى النيل، فإذا بها تنحسر في الأرض التي احتلها الصهاينة سنة 1948 وبعض آخر من الأرض المحتلة سنة 1967. وبعد اندلاع انتفاضة "سيف القدس" التي وأدت "صفقة القرن" الأميركية التي تقوم على إعلان القدس عاصمة للدولة الصهيونية، وإعادة احتلال الضفة الغربية، وضمّ غور الأردن، ورشوة الفلسطينيين، وتهجيرهم مقابل ذلك إلى سيناء المصرية، تأكد هذا النصر بوحدة الفلسطينيين في الداخل والضفة والقطاع والشتات، وظهور نوع من توازنات القوة والردع بين المقاومة الفلسطينية والمجتمع العسكري الصهيوني، على الرغم من تفوق جيش الاحتلال، والتفوق الديموغرافي الذي أُدخل المعركة بوصفه عنصراً حاسماً. وزيادة على ذلك كله تشكل رأي عام دولي، يعتبر الدولة الصهيونية دولة أبارتهايد (فصل عنصري) كما جاء في التقرير السنوي لسنة 2021 لمنظمة "هيومن رايتس ووتش" وظهور أصوات من داخل صنّاع الرأي الأميركي والغربي، وحتى من داخل الكونغرس نفسه، تعتبر "إسرائيل" دولة قتل وإجرام و"جينوسيد".
وسيبقى مصير القضية الفلسطينية رهين الوحدة الوطنية الفلسطينية من عدمها، فالتشتت والانقسام هما عنوان الفشل والارتداد على النصر الذي حققته انتفاضة "سيف القدس" التي يجب أن ترفع شعار فلسطين من النهر إلى البحر، والقدس عاصمتها، بدلاً من إقامة الدولة الفلسطينية على أراضي 1967 والقدس الشرقية عاصمتها، ففلسطين اليوم، بتضحيات شعبها وصموده ونضاله وشهدائه (أكثر من مائة ألف شهيد فلسطيني حسب مركز الإحصاء الفلسطيني)، قاب قوسين أو أدنى من هزيمة الصهيونية، بعدما عرّتها وكشفت عوراتها وأسقطت عليها ورقة التوت في أعين الشعوب التي دعمتها وحمتها قرناً أو يزيد.