سيكولوجيا السوري المقهور وظاهرة "الجبروت المخادع"
تحوّلت الدولة السورية، عبر عقود خمسة، إلى مجموعةٍ من الجزر المنعزلة، تغصّ بحظائر بشرية قائمة على الاستثمارات الربحية النفعية الخاصة، يجري فيها إعادة تخصيب مستمر لثقافة القوة بما يؤدّي إلى بروز أشكال نافرة من أعمال "العنف الإلغائي". وخلّف هذا الواقع المأزوم معضلة خطيرة، تكمن في قدرة نظام الأسد على التنويع في أدواته لبسط سيادته على القابعين في أدنى الترتيب، فتلعب العصا مع الجزرة دوراً متبادلاً بين إرهاب الجماهير مادياً ثم إخضاعهم معنوياً بالعنف الرمزي، وهو أشدّ تأثيراً لكونه يتغلغل في قناعات الإنسان ويحكُم لا وعيه. ووفق متاهةٍ لا متناهية مرسومة بعناية مدهشة، يلعب كلّ سوريٍّ داخل سلسة "التجبّر الأعمى" دور المتسلّط على مَن هم أدنى منه. تزيدها ضبابية حملاتٌ تيئيسيةٌ منظّمة لجعله ينظر إلى نفسه بصورة دونية، تقدّم قراءة دقيقة للمناخ الاجتماعي السائد بما يتناسب مع أمزجة أقليةٍ متنفّذة. على التوازي، وفي كتابها "في العنف"، ذكرت حنّة أرندت أنّ الفئات الحاكمة المستبدّة طوّرت شكلاً متطرّفاً من العنف يمكن وصفه بـوصفاتٍ مسبقة الصنع للقسوة الناعمة، وتمثل هذه الخلطة الجديدة الغريبة حالة نوعيةً طاغية حتّى بالقياس مع عنف الحروب.
وفي محاولةٍ للإحاطة بهذه المعضلة السياسية، برزت مصطلحاتٌ كثيرةٌ في الإطارين، الأكاديمي والتجريبي، سأتجرّأ على تلخيصها بجديد ما ضجّت به أخيرا وسائل التواصل الاجتماعي في سورية: "إيقاف امرأتين بعدما قامتا بالإساءة لشرطي مرور في أحد شوارع دمشق، حيث وجهتا له شتائم بذيئة وتهديداً بالقبض عليه من قبل أحد الأقرباء المنتمين للسلك العسكري بعدما طلب منهما عدم عرقلة حركة السير".
لا يحتمل الإنسان المقهور التبخيس الذاتي بشكل دائم، ويُولّد الألم الناتج عن هذا الإحساس مشاعر عدوانيةً توجّه إلى الذات المحطّمة
عملياً، ليست مثل هذه الحادثة في جوهرها، والتي قد تبدو عادية ومارقة بالنسبة لكثيرين، إلا علاقة رضوخ مازوخية، يتماهى من خلالها الإنسان المقهور مع المتسلط كأثر خطير للقهر الاجتماعي، فيتشبّه بعدوانيته ونمط حياته وسلوكياته، ويكون التماهي حينها أكبر من مجرّد محاكاة، بل يصبح عمليةً لا واعية تفوق الإرادة، وتتلخّص بتمثُّل وجود الآخر كلياً أو جزئياً، ليكتسب وهم الاعتبار الذاتي، ويصرف العدوانية إلى الخارج بدلاً من ذاته. بطبيعة الحال، يُعتَبر "الجبروت المخادع" الابن الشرعي لهذا التماهي، ويندرج تحت مسمّى "العنف الاجتماعي المقنع"، وهو نوع من ممارسات القمع الناعمة التي تسيّرها ثقافةٌ سلطويةٌ تقليديةٌ وتأويلاتٌ أيديولوجية عنفية تقدّس ثنائية "الضحية_الجلاد".
بالتساوق مع ما تقدّم، لا يحتمل الإنسان المقهور التبخيس الذاتي بشكل دائم، ويُولّد الألم الناتج عن هذا الإحساس مشاعر عدوانيةً توجّه إلى الذات المحطّمة بداية، وتتعاظم خطورة هذه المشاعر بمقدار تراكمها داخل وجدانه، لتصل إلى فائضٍ لا بدّ من تصريفه، كي لا يرتدّ إلى الذات فيحطّمها. وهنا يُسقط عدوانَه على الآخرين ليتخلص من تقصيره الوجودي. وكلما تحرّر من شيءٍ من القهر المتراكم داخله، زاد تقديره ذاته، وزادت ثقته بقدرته على المبادأة والتغيير، لكن من دون أن ينمو "وعيه الاضطهادي" إلى حالة إشعال معركةٍ شاملةٍ تقرّر مصيره. هذا التواطؤ الذاتي بين الإنسان الهشّ روحياً وما يُمارَس عليه من قهر يخلق نمطاً متذبذباً بين التبعية والعدوانية الفاترة، التي تُنتج ازدواجية في العلاقة بين رضوخ ظاهري للمقهور وكراهية خفيّة تجاه المتسلط، الأمر الذي يؤدّي إلى بروز عدد من العُقَد الأليمة، كعُقدة النقص والعار، أو اضطراب الديمومة وضياع الثقة في إمكانية الخلاص، فيلجأ إلى مَن يُحمّلهم أوزارَه ويلصق بهم عارَه، فالعنف في ظلّ الأنظمة المستبدّة يتحوّل من المحرّم باسم الدين والأخلاق إلى الشـرعي باسم القانون. وهنا يبرز التساؤل الأهم: من يتحكّم في الآخر فعلياً؟ هل الدولة المترهلة هي من تُشـرّع العنف، أم العنف هو من يُنشئ المؤسّسة ليمنح نفسه شرعية مستحقّة؟
تمكّن نظام الأسد من قوننة قوته وفوائض توحشه في ظلّ مناخ العنف السياسي وغير السياسي، بنوعيه العضوي والرمزي
تساؤلات عديدة كينونية تطرحها موضوعة العنف ومنطق القوة في سورية، تتركز حول معناه وضرورته البشرية، دوافعه ومسبباته، أيضاً آليات ضبطه وانفلاته، وتسهل الإجابة بعد هضمِ حقيقةٍ جلية وهي تمكّن نظام الأسد من قوننة قوته وفوائض توحشه في ظلّ مناخ العنف السياسي وغير السياسي، بنوعيه العضوي والرمزي، إذ لا تزال تتوفّر بيئة حاضنة وتربة مناسبة لنموّه وتصاعده. وجذوره، بطبيعة الحال، يعزّزها وجود نظمٍ أمنيةٍ دمويةٍ مغلقةٍ مع سيادة العلاقة الفوقانية الجائرة بين رأس الهرم والقاعدة، وعدم وجود جسور وقنوات تفاهم أو توسّطات مدنية حقيقية مهيكلة يمكن أن تكون محطّة تواصل وتفاعل بين أهل الحكم وعموم الجمهور.
دفع هذا الأمر، على أهميته، النظام السوري إلى ضرورة إيجاد آلياتٍ ونصوص تفاهمية لتسويق حركة "الإبادة الناعمة" ضد الآخر، فرداً كان أم جماعة، نظاماً أم محوراً. ولم يأت هذا التسويق هكذا فجأة بلا مقدّمات ومسبّبات، وإنما جاء عبر ممارساتٍ وتراكماتٍ عانى منها السوريون طويلاً، في وقتٍ يدّعي الحاكم فيه تبنّي حالة من التطهرية الفكرية والسياسية وامتلاك الحقيقة المقدسة المطلقة. في المقابل، يعتقد الباحث في علم النفس التحليلي، مانفريد كيتس دوفري، أنّ الشعور المخادع بالجبروت المترافق مع القوة كفيلٌ بإغراء أيّ إنسان، ويكون لهذا الشعور تأثير هدّام، خصوصا لدى الذين سبق لهم الإحساس بالمعاناة الدونية، والإحباط في مراحل مبكّرة من تكوين الشخصية، ويشكّل الوصول إلى نوع من التسلّط تحقيقاً وإثباتاً لذاتهم.
يعيش السوري المقهور في أرقٍ دائم من افتضاح أمر بؤسه الوجودي في وطنٍ مُصادَر
وثمّة بدهيّة واضحة للعيان، مفادها بأنّ العنف يتغوّل فيأكل الفضاء العام حين تفشل السياسة في المقاربة بين الرؤى الوطنية الظاهرة والباطنة. وعليه، يعيش السوري المقهور في أرقٍ دائم من افتضاح أمر بؤسه الوجودي في وطنٍ مُصادَر، فيحاول دائماً ستر عوراته النفسية بمظاهر القوة الخادعة، كتلكما المرأتين. في السياق، لا يفارق المقهور شعوره بالعار والتبخيس، فيسعى إلى إسقاط عارِه على من هم دونه من الضعفاء، كذلك لا يفارقه الإحساس بارتهان مصيره للسلطة المستبدّة، وقد يعرّضه إلى نزيف نرجسي يصيبه بعارٍ لا يبرأ منه، فيهرُب في الاتجاه المعاكس متحدّياً واقعه بالعنف والإيذاء والجريمة. ولا سبيل غير ذلك، في فكره المريض، لوقف نزيف الألم الناتج عن تعاظم هزائم الماضي ومعاناة الحاضر وتبدّد آفاق المستقبل.
وفي هذا الاتجاه، يبدو واضحاً أنّ الهدف من إيجاد (وتعميم) ظاهرة "الجبروت المخادع" وذهنيتها المرافقة هو إشاعة النمط "البربري" في تعامل مكوّنات المجتمع السوري مع بعضها بعضا، وتمزيق الأواصر والأطر الاجتماعية الحاملة مفهوم "الهبّات الشعبية" الراغبة في إطلاق صيرورة التجاوز والتغيير. والحقيقة إنّ هذه الظاهرة المريبة، المستندة إلى البيئة النفسية الخائفة والذهنية القاصرة والمشوّشة، تعود بإشكالاتها إلى ثمانينيات القرن الماضي التي شكّلت بعنفها الفجّ صدمة للوعي السياسي السوري، وما تبع ذلك من إفلات اليد الأمنية في حياة الناس، مع إعلاء شأن النظرية "الستالينية" عن مفهوم "الأب القائد"، وتبجيل الأسرة الحاكمة وإظهارها قوة "سلطانية" قاهرة، فوق القانون والمحاسبة.
قُصارى القول، تحاول ذهنية الجبروت المتمخض عن القهر النيْل من الروح السورية عبر تفخيخها بالنوازع التدميرية، الأمر الذي يوجِب محاصرة هذه الآفة وإشاعة خطابٍ جديد، يستبعد مفردات التشفّي والحقد والانتقام، وإخضاع كلّ "متجبّر" لمحكمة عادلة، لكونها أقصر الطرق في بناء دولة المواطنة والحرية والعدالة الاجتماعية.