سيّد درويش... فنان المستقبل
كان الغناء امتيازا طبقيا، حتى جاء سيد درويش، ابنا للحركة الوطنية المصرية في كفاحها ضد المحتل الإنكليزي. حوّل شعارها "مصر للمصريين" إلى موسيقى وغناء، فصار "الغناء للمصريين"، بعد أن كان حكرا على الطبقة الأرستقراطية وقصورها و"عوّاماتها"، ومعبّرا، تبعا لذلك، عن مزاجها المخملي وخيالها الشهواني، وتطلّعها إلى "استعمال" الفنون مادّة للمتعة والترفيه لا أكثر.
جاء سيد درويش من حي كوم الدكّة الشعبي السكندري، الذي حوّله الإنكليز يوما إلى ثكنة عسكرية، ولفتت مواهبه الغنائية مدرسيه، فاهتمّوا به، وقدّموه على زملائه منشدا، في المدرسة. طارد درويش الشاب خبز يومه عاملا حينا، مع البنّائين والنقّاشين، ومطربا سريحا، حينا، على المقاهي والغرز والبوظات. دبّرت له الأقدار تجارب كثيرة، ومتنوّعة، في طريقه إلى الاحتراف، صقلتْه، عجنته، رافق أصحاب الحرف المختلفة، واقترب من معاناتهم، وآلامهم، وتطلعاتهم، وحوّلها إلى موسيقى (وكلمات) وغناء، وكان ذلك "مصدره" في تجديده الأغنية المصرية والعربية، وأحد دوافع ثورته على قوالب الغناء التقليدي في زمانه.
غنّى سيد البحر للموظفين، والعمّال، والسقّايين، والشيّالين، والمراكبية، والجزارين، والحمّارين، والعربجية. كما غنّى لطوائف مصرية، بالنشأة والسكنى، اعتبرها جزءا من تكوينه مصريا وعربيا، مثل السودانيين والمغاربة، وللمفارقة، اليونانيين الذين ولدوا وتربّوا في الإسكندرية وتعلّموا لغتها، ونطقوها بلكنة مصرية يونانية، لا تخلو من "لطافة"، استدعاها درويش وغنّى لأصحابها، وبهم، (خطّان تحت "بهم")، وطول وقوف وتأمل، فلم يكن درويش واعظا على منبر الغناء الشعبي، بل فيلسوف غنائي للحياة اليومية المصرية، استلهم موسيقاه من نداءات الباعة، وأناشيد العمّال، ولهجات الفلاحين والصعايدة والخواجات "حتى نسمع في أغنية الشادوف إيقاع ارتفاع الدلو بالماء، وجريان الماء في الأرض الشراقي، ونسمع الفلاح وهو يشرك الشادوف في همومه وأحلامه، والأمر نفسه في أغنية المحراث وإيقاع سنونه حين يغوص في باطن الأرض، زاحفا ليفجر سطحها بمشاعر في التربة السوداء" ما رصده عم خيري شلبي (ألف رحمة ونور عليه في ذكراه)، في كتابه "صحبة العشّاق... رواد الكلمة والنغم".
سبق شيوخ الموسيقى والغناء نظراءهم في المعارف الدينية في الإجابة عن سؤال ما التجديد؟ سبقوهم في التفرقة الواعية بين علوم المحتلّ وأسلحته. ورغم نشأة درويش بسيطا، متديّنا، ثم شيخا معمّما، إلا أن غيرته الفنية من ناحية، وانحيازاته النضالية من ناحية أخرى، دفعاه إلى اكتشاف مواطن التميز لدى الغربيين. سأله أحد أصدقائه ممازحا: "تعرف تلحن أوبرا يا شيخ سيّد؟ فردّ: وليه لا؟ مش اللي ألفها ابن تسعة زيّنا؟". تعلّم سيّد النوتة، ودوّن بها موسيقاه، واستفاد من قائد الأوركسترا المسيو كاسيو، وطمح إلى السفر إلى إيطاليا ليزداد معرفة بالموسيقى الغربية وأصولها، واستفادة من قوالبها (من دون التماهي مع روحها) ومن ثم يبدع أوبرا مصرية خالصة كما أراد، وكما أبدعها أصحابها، (أولاد التسعة)، لكن أحدًا لم يدعم هذا الطموح.
طاح سيّد في الحياة المصرية طولا وعرضا، من كوم الدكّة في الإسكندرية، إلى شبرا وعابدين وبولاق وغيرها من أحياء القاهرة الشعبية، وحملت أغنياته هموم المصريين وأفراحهم، حفلات الخطوبة والزفاف والسبوع والطهور، وقضايا المرأة، وتعليمها وعملها وتحرّرها، جلسات الحشيش والمزاج، ومكابدات الزراعة وحمل الفأس والمحراث، هموم التلامذة والأفندية، ومعاناة الجرسونات والبوابين، مشكلات الساسة الوطنيين، ومشكلات المشايخ والقساوسة والفتنة الطائفية والوحدة الوطنية، بلد مواز، بتاريخه، ونضالاته، وأحزابه، وتياراته السياسية والاجتماعية والفكرية والفنية، تمثله سيد درويش، وأبدعه غناء ممتعا وجادّا وجديدا.
مائة عام على رحيل درويش الأغنية، الذي أنجز ذلك كله، ورحل وهو في الحادية والثلاثين من عمره، (معجزة). وواجه، بعد موته، اتهامات من شيوخ التقليد بالخروج على القواعد والأصول والمعقول والمنقول، وحملات استهدفت تشويهه في وجدان الأجيال الجديدة، ودفعت توفيق الحكيم وعبّاس العقاد وبيرم التونسي إلى الدفاع عنه، كتابية. ورغم ذلك، ما زال سيّد درويش "فنان المستقبل" كما قدّمه يوما سلامة حجازي لجمهوره، وما مغامرات تجديد الأغنية المصرية من بعده سوى محاولاتٍ للركض خلفه، واللحاق به.