شهيد من قاع المجتمع
"الضباط الكبار في الجيش المصري اعتذروا، وقالوا إن الجنود الذين يخدمون على الحدود من قاع المجتمع، ويعيشون في بيئة غير جيّدة، كما أن الجندي المصري كان يقف في برج المراقبة منذ أسابيع، ولم يعد إلى بيته منذ شهر، ومرّ بظروف صعبة، ومن الوارد أن تصدر عنه تصرّفات غير منضبطة". ... هكذا تحدّث محلل الشؤون العسكرية في التلفزيون الإسرائيلي آلون بن دافيد. تجاوزت رواية المحتل نظيرتها المصرية، ذات الطابع الدرامي، عن مطارداتٍ مع تجّار مخدّرات، تركوا جميع النقاط الحدودية واتجهوا إلى التهريب عبر معبر حدودي عسكري. وتحدث بن دافيد (وغيره) عن التنسيق بين الجيشين، الإسرائيلي والمصري، لمعرفة أسباب الواقعة، واعتذارات ضباط مصر الكبار، ووصفهم الشهيد محمد صلاح بأوصاف دونية، كرّرها بن دافيد غير مرّة، في لقائه مع القناة 13 الإسرائيلية، كما أوضح أن دوافع الجندي المصري في قتل الجنود الإسرائيليين كانت قومية ودينية، وهو التحليل نفسُه الذي ذهب إليه تقرير نشرته "يديعوت أحرونوت"، السبت 3 يونيو/ حزيران الجاري، واستبعد مبرّرات الجانب المصري، عن دور العامل النفسي، نظرا إلى التخطيط المُحكم من الجندي المصري محمد صلاح (تسلم يده).
هل نصدّقهم؟ يتحسّر غير واحد من الإعلاميين المصريين (جابر القرموطي مثلا)، وغيرهم من عناصر الكتائب الإلكترونية، كما وصفها الرئيس عبد الفتاح السيسي، على تصديق أغلب المغرّدين المصريين على "تويتر"، وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي، الرواية الإسرائيلية، وعدم تصديقهم رواية "بلدهم"، وإعلام "بلدهم"، وبيانات جيش "بلدهم". تتعمّد "أفواه" النظام، فيما يبدو تعميما، استخدام مفردة "البلد" بدلا من الدولة، المشحونة بكثير من الدلالات السلبية، بات المصريون يفرّقون، الآن، بوعي أو بحدس شعبي نافذ، بين البلد (الأرض وما عليها)، والدولة (النظام وأجهزته)، لم يعد هناك ما يجمعهما، في الوجدان المصري، فقدت مفردة "الدولة" قيمتَها المعنوية، بعد أن فقدت وظيفتها السياسية وانقلبت إلى ضدّها، صارت مبتذلة، وأدركت ماكينات التبرير الإعلامية ذلك، فأزاحت الدولة لصالح البلد، حتى "أمن الدولة"، تحوّل في بعض الخطابات إلى "أمن بلدنا".
والسؤال: لماذا لا نصدّق الرواية الإسرائيلية؟ تؤكد الرواية المصرية "الرسمية" صحة رواية "الحليف" الإسرائيلي، وتخدمها. يخبرنا الإسرائيليون بأن نظامنا وصف الشهيد محمد صلاح بأنه من قاع المجتمع، وتُخبرنا بيانات المتحدّث العسكري المصري بأن ما حدث هو "وفاة" وليس استشهادا (هل تذكُر صيحات الإعلام المصري وكتائبه الإلكترونية بسبب وصف قناة الجزيرة وموقعها شهداء الإرهاب في سيناء بـ "القتلى"؟). يصف الخطاب المصري الشهيد محمد صلاح، في بيان رسمي، بـ "عدد 1 فرد أمن"، فلا هو جندي مقاتل، ولا هو شهيد الواجب، إنما مجرد رقم.
إذا تجاوزنا الخطابات الرسمية إلى أذرعها الإعلامية، داخل مصر، لا نجد صدى حقيقيا لاستشهاد جندي مصري. مرّة أخرى: هل تذكُر شهداء سيناء، أيام كانت الشهادة حماية لنظام السيسي، ونكاية في خصومه، وكانت دماء كل شهيد مبرّرا للقبض على مئات المعارضين، أيا كانت توجّهاتهم، ولو كانوا مؤيدين سابقين للنظام، ولو كانوا شركاء في 30/ 6، و3/ 7 ولو كانوا خصوما أيديولوجيين لجماعات الإسلام السياسي، بل ولو كانوا ضبّاط جيش سابقين؟ مجرّد كونهم معارضين لنظام يواجه الإرهاب يعني، بالضرورة، أنهم إرهابيون. هل تذكُر بيانات المتحدّث العسكري وقتها، الجنائز العسكرية، التغطيات الإعلامية، بكاء الإعلاميين والمراسلين، بكاء الرئيس نفسه، ودعاءه على نفسه، أمام أهالي الشهداء (يا ريتني كنت أنا)، بكاء الفنان محمد صبحي وهو يقرأ خطابا كتبته خطيبة أحد الشهداء، بكاء أم الشهيد وزوجته وأولاده وأصدقائه وجيرانه؟ أين ذلك كله الآن؟ وحدها الرواية الإسرائيلية تجيب وبوضوح: "محمد صلاح شهيد من قاع المجتمع"، هكذا يراه قادة جيش مصر "الكبار".
أخيرا أشير إلى توثيق صفحة "ما تصدّقش" شهادة أحد أصدقاء الشهيد محمد صلاح بأنه في آخر زيارة كان يشعر بالضيق بسبب مقتل أحد أصدقائه على الحدود، من دون أن يهتمّ أحد، وبأن أحدًا لا يهتمّ بسقوط شهيد مصري على الحدود سوى الإسرائيليين.