شيماء الصباغ وبياع البطاطا
المفاجأة الحقيقية في موضوع إلغاء الحكم على الضابط، قاتل الشهيدة شيماء الصباغ، هي أن يحاول أحد أن يبدو مصدوماً أو مندهشاً، من قرار المحكمة.
قالها عبد الفتاح السيسي، وقالتها الأيام والشهور: انتهى زمن محاكمة الضباط، وبالتالي، كان إلغاء الحكم على قاتل شيماء مسألة وقت، بالنظر إلى أن الحكم الابتدائي بحبسه 15 عاماً صدر في فترة شهدت كلاماً عن مصالحات ثورية، استباقاً لذكرى الانقلاب، وكان بمثابة شكل من أشكال التهدئة، أو الترضية المؤقتة لليسار السيساوي الذي كان يواجه حرجاً.
إلغاء الحكم على الضابط قاتل شيماء يتزامن مع الذكرى الثالثة لاستشهاد بائع البطاطا الصغير في ميدان التحرير، عمر صلاح، على يد أحد أفراد الجيش، من المجندين، كان يحمي حدود ميدان الثورة من المتظاهرين الأشرار.
في ذلك اليوم من فبراير/ شباط 2013، طلب المجند المسلح من الصغير عمر قطعة بطاطا، فطلب منه الانتظار، حتى يذهب إلى دورة المياه ويعود ويبيعه ما يشاء.. روى والد الشهيد القصة في حوار تلفزيوني، بقوله إن "مجند الجيش أطلق النار على عمر، عندما رفض إعطاءه بجنيه بطاطا، لأنه كان يريد أن يذهب إلى الحمام، وطالبه بالانتظار إلى حين عودته، وتابع: وقتها، هدده العسكري بإطلاق النار عليه، فرد عليه عمر قائلا له "متقدرش تضربني بالنار"، فما كان من العسكري إلا أن أطلق النار عليه". وبالطبع، اختزلت هذه الرواية على لسان المتحدث العسكري في ذلك الوقت إلى رصاصة خطأ.
إلى روح عمر، أعيد نشر هذه الكلمات:
كم مرة تجهّمت في وجه بائع البطاطا الصغير، وأنت تشق زحام ميدان التحرير؟
كم مرة ارتبت فيه، وفي أسباب وجوده، وكم مرة حسبته على "الأمن"، وكم مرة اعتبرته من عناصر الخطر التي تشوّه وجه الميدان وثواره؟
كم مرة دخلت معه في فصال على سعر البطاطا، واتهمته بالجشع والاستغلال، وكم مرة بعد أن رجعت إلى بيتك بعد يوم تظاهر حاشد، تذكّرت وجهه، وفكّرت كيف يتحمّل جسده الهزيل كل هذا البرد وذاك البرود والزحام ورائحة الغاز؟
كم مرة تأملت في مقدرة هذا الطفل على انتزاع ما يقيم الحياة من فم الموت المحلّق كل لحظة على جنبات الميدان؟
هذا الطفل الشهيد هو الجدير بالغضب والحزن الحقيقي، ذلك الذي وقف يخدم كل أنواع المظاهرات، وكل ألوان المحتجين، يهتف مع الفئويين وغير الفئويين، ويسد جوع الغضب، من دون أن يأكل، ويتبنى مطالب الجميع، من دون أن يتذكّر قضيته أحد، مثله مثل عمود الخيمة وحجر الرصيف ووقود التدفئة في عز البرد.. أداة من أدوات الثوار والغاضبين، وليس موضوعاً رئيسياً لها.
تشتبك الجموع في الميدان، وتتصادم النخب في الاستديوهات وهو يدفع الثمن، يدفعه فقراً وبرداً وجوعاً، والآن يدفع الثمن موتاً. مثله مثل الأرانب تموت صامتةً، تحت أقدام الأفيال المتصارعة، فالرصاص الغادر لا يرحم، ولا يفرّق بين صغير خرج يبحث عن لقمة عيشه أو متظاهر يزرع الميدان غضباً ليحصد بعضاً من الحرية، أو عابر من المكان بالمصادفة، ذاهباً إلى عمله أو عائدا منه.
إن مثل ذلك الوجه النائم في راحة الموت لا يتذكّره أحد إلا بعد أن يرحل رحيلاً تراجيدياً فاجعاً، يلهم أقلاماً كي تكتب، ويشحن حناجر كي تهتف وتصرخ، لكن أحداً لم يكتب عنه، أو يهتف من أجله، وهو على قيد الحياة.
وسواء كان هذا الصغير قد قتل برصاصة خاطئة، أو متعمّدة، فإنه هو الشهيد الذي لا يحتاج إثبات استشهاده وجدارته باللقب أي مجهود، أو ينتظر تحريات وتحقيقات ومعاينات نيابة وتقارير طب شرعي. لا ينبغي لأحد أن "يفاصل" في صحة استشهاده، كما كان ينهكه الفصال في ثمن البطاطا.
إنه الشهيد، ولو لم ينشر اسمه، أو يتوصل إليه أحد، تكفي هذه الفتحة في قلبه ــ قلب الوطن ــ وهذه النظرة المعاتبة في صورته الملتقطة بمشرحة زينهم. ولو لم تحدد العدالة قاتليه وتعاقبهم، فلن تكون عدالة، ولو لم تسرع الدولة باعتباره شهيداً، وتمنح أسرته معاش شهيد فلن تكون دولة، ولها أن تختار ما تشاء من أسماء: غابة، محرقة، معسكر موت مجاني.
هو الجدير بجنازةٍ تليق بشهيد خالص لا شية فيه. تُرى، كم طفلاً سيقتلون بعده في هذه المعركة المجنونة؟