صباحان مسقطيان
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
عادة، أذهب صباح كل سبت لأفطر في مقهى "المسافر" وفي يديّ كتاب. و"المسافر" مقهى شعبي في منطقة الخوض في مسقط معروف بإعداد "الشاي الكرك" (الشاي الأسود بالحليب والزنجبيل والقرفة والقرنفل..). كان في يديّ، هذه المرة، كتاب أهدانيه الشاعر البحريني، قاسم حداد، "أيها الفحم يا سيدي". كتاب مونولوغي، كل شيء فيه عن فان غوغ. وكأنّ الفنان يُبعث من موته ليحدّثنا عن نفسه، فقد صيغ الكتاب بضمير الأنا وبطريقة التخيّل الغيري. وكأنّ فان غوغ يتحدّث بلسان قاسم حداد، إذ قرأ قاسم وتأمل مئات اللوحات والرسائل ليُنجزه: "قالت لي التجربة إن الدين والفنّ يصدران عن نبع واحد".. كتاب ضخم يتجاوز أربعمائة صفحة، وقد فاز الكاتب بفضله، أخيرا، بجائزة أبي القاسم الشابي.
كنت منهمكا في القراءة: "في القتال ليس ثمّة قوة أعمق من الحب".. حين فاجأني شابٌّ عُماني جلست قبالته، بعد أن سلمت عليه وفتحت كتابي. سألني:
-كأنّك تقرأ؟..
أجبته بنبرة سريعة:
-شوية.
يبدو أن القراءة عادة مستغربة. كان الزبائن الهنود أيضا ينظرون بفضول لا تُفلته عينٌ إلى حيث أجلس. لكني تمكّنت، بمرور الوقت، من ترويض نظراتهم، بهزّ رأسٍ نحو أصحابها بابتسامة حتى يعتادوا علي، ويطمئنّوا إلى أني لا أفعل غيرَ "اقتراف" القراءة.
كنت أحمل معي إلى المقهى بسكويت "ستيجيتيف"، الخالي من السكر. طلبت من المقهى شاي كرَك بالزّنجبيل. ورحت أتلذّذ بقضم قطَع البسكويت واحتساء الشاي، وأنا أقرأ. ثم أجول بعيني على الجالسين من حين إلى آخر، مبتسما، كي أروّض نظراتهم المشدوهة إلى رجلٍ ليس وحيدا، كما يبدو، بل هو برفقة.. فان غوغ!
وكنت، أحياناً، أذهب إلى "جلوريا جينز كافيه"، وهو مقهى جديد لا يغلق أبوابه ليل نهار. خلال سنواتٍ غبتُها في المغرب، اكتشفت أن المدينة تتّجه بوتيرة متسارعة نحو التحديث. مراكز تجارية كثيرة تم افتتاحها، إنشاءات في كل مكان، وأنواع لا حصر لها من المقاهي والمطاعم. ما يجعل عروق الحياة تنبض طوال الوقت في المدينة، فعلى الرغم من حصار كورونا الذي سوّر لقاءات الناس، ومنع الشباب من الذهاب إلى البحر، بسبب الاحترازات؛ إلا أن الناس وجدت بدائل للفرجة والحركة والتنّزه، وذلك بسبب وفرة المراكز التجارية وتنوّعها، وكذلك كثرة المقاهي والمطاعم وأماكن السهر، و"تقصير الوقت" حسب التعبير المغربي البليغ.
كنا في السابق نستغرب من أن هناك محال أو مقاهٍ تبقى بدون إغلاق. وكانت تأتينا أخبار من القاهرة أن هذه المحال موجودة بالفعل، حتى أن بعضها بلا أبواب، فما الحاجة للباب إذا كان المحل مفتوحا أبد الدهر، فالباب يوضع للإغلاق. هذا المقهى كذلك بابه لا يغلق. بابٌ شفّاف كأنه غير موجود، يظل نصف مفتوح طوال الوقت. وأحيانا أزوره في أوقاتٍ متأخرةٍ من الليل، وخصوصا في أوقات الإجازات. والمقهى يصلح للكتابة مقارنة بالمقاهي الشّعبية التي تصلح أكثر للقراءة وتأمّل حركة الناس، فالكتابة تحتاج إلى الهدوء والتقوقع أمام جهاز حاسوب، وغيرَ بعيد عنك "فيش" كهربائي يمدّ جهازك بالطاقة والحياة. ولي في المقهى زاويةٌ أو طاولةٌ خاصة، أو لأقُل إنها صارت خاصة بمرور الوقت، لأني أول من يدخل هذا المقهى تقريبا، وأختار بالتالي ما أشاء من طاولات. الكل في بيوتهم يومَي السّبت والجمعة، والشوارع فارغة تقريبا، فأكثر من نصف سكان مسقط ذهبوا إلى قراهم. يعملون في مسقط، وفي مساء الخميس يروحون إلى ديارهم وأحضان أحبّتهم فيها. تتحوّل الشوارع إلى نهر ملوّن، هادر بمختلف أنواع السّيارات والمركبات. تتفجّر شوارع الجبال والقرى البحرية والأودية بهذه الناقلات. وتفرغ مسقط من سكّانها، باستثناء المقيمين الأزليين والوافدين عليها من خارج حدود البلاد، فثمّة أجانبُ تشكل مسقط بالنسبة إليهم الموطنَ الحقيقي، وأحيانا أكثر حتى من بعض مواطني البلد الذين ما إن يجدوا سانحةً لمغادرتها، حتى ينتهزوها، خصوصا في حالات الإجازات المفاجئة. وإذا كانت الإجازة بين يومي عمل، فإن وسائل الاتصال في الإنترنت تزدحم بالاحتجاجات، وطلبات مراعاة ظروف الذاهبين إلى قراهم واضطرارهم إلى الرجوع العاجل بعد يوم أو يومين (من الدوام).
أحاول، أحيانا، أن أعاند وأتحدّث بالعربية مع الأجانب. ولكن النتيجة تكون مضحكة، فهو إما سيضطرّ إلى تكسير ما يحفظ من مفرداتٍ عربيةٍ أو سيستعين بشخصٍ يترجم له، ما سيسبب لك إحراجا ويعقّد الموقف البسيط. "بيئة" العرض والطلب لا تكون إلا إنكليزية أو بلغة عربية مضحكة ومكسرة.
تقرأ ثم تكتب.. ستعيش بين هذا وذاك أكثر من حياة، حسب المقولة المنسوبة إلى عباس محمود العقاد.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية