صحوة شعبية فلسطينية وكبوة أممية
في ظل الصحوة الشعبية الفلسطينية الجارية الآن في الأرض المحتلة، ونشوء ديناميات جديدة، يقودها جيل جديد من الفلسطينيات والفلسطينيين، وجهاتٌ فاعلة سياسية غير تقليدية ومنظمات شبابية وليدة، كيف يمكن أن نقرأ بعض التحرّكات الإقليمية، وخصوصا ما يتعلق بالدور المصري المتجدّد واتفاقات أبراهام؟ وماذا عن الاستجابات الدولية إزاء التصعيد الإسرائيلي، سيما فيما يخص الأدوار المنوطة بالولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي؟
من الأهمية بمكان أن ندركَ أن الدور المصري المتجدّد، وخصوصا توسطه في وقف إطلاق النار أخيرا بين إسرائيل وحركة حماس، لا يمثل تحوّلا جوهريًا في السياسة المصرية من حيث نظرتها إلى "حماس". فالتعامل مع الحركة في أعقاب التصعيد أخيرا، والتوسّط في اتفاق وقف إطلاق النار وصفقةٍ محتملة لتحرير أسرى فلسطينيين من السجون والمعتقلات الإسرائيلية، لا يمثل، في أي حال، تبدلًا مفاجئًا في الموقف المصري. بل نحاجج هنا بأنها لعبةٌ سياسية بامتياز، إذ يرغب النظام المصري في أن يبرهن لإدارة الرئيس بايدن الأميركية على أنه ما يزال قادرًا على التعامل مع "الملف الفلسطيني"، وأنه مستعد لاتباع التوجيهات الأميركية في هذا الصدد، فقد أرادت الإدارة الأميركية أن "تتعاقدَ" مع فاعلٍ إقليمي من أجل التوصل إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار، وقبلت مصر مهمةَ إرضاء إدارة بايدن. الولايات المتحدة أعطت التعليمات، ومصر نفذت.
لا يبدو أن الفاعلين الإقليميين، أو الدوليين، مهتمون بالتعلم من أخطائهم في الفصل بين الاقتصاد والسياسة على مدى العقود الثلاثة الماضية
من مصلحة مصر أيضًا أن "تحتوي" حركة حماس، فورقة إعادة إعمار غزّة سوف تُستَغلُ من جديد لاحتواء "حماس" وإسكاتها، من خلال عرض حوافز اقتصادية ومالية عليها، غير أن هذه الاستراتيجية الأميركية – الإسرائيلية - المصرية قصيرة النظر محكومٌ عليها بالفشل. فلا يبدو أن الفاعلين الإقليميين، أو الدوليين، مهتمون بالتعلم من أخطائهم في الفصل بين الاقتصاد والسياسة على مدى العقود الثلاثة الماضية، حيث إن الحوافز الاقتصادية، ضمن الإطار العام الحالي، لن تشتري السلام السياسي، أو حتى الاستقرار طويل الأمد، فهي تعالج أعراض المشكلة فقط، وليس المشكلة نفسها.
أما فيما يتعلق بما تسمى اتفاقات أبراهام، فإن موجة المواجهات أخيرا تحدَّت مواطن الضعف والهشاشة المتأصلة في هذه الاتفاقات، وكشفت نيات الموقعين عليها واستراتيجياتهم، حيث تجلَّت مستويات التقارب والتكامل بين السياسات الاستعمارية الاستيطانية، وهياكل الفصل العنصري، والنُظم القمعية الاستبدادية، والأجندة الأمنية في استجابة الموقعين على تلك الاتفاقات، إزاء "التصعيد" الحاصل. وعلى النقيض من ذلك، شهدت شوارع الوطن العربي في أماكنَ عديدةٍ، مثل السودان والمغرب، مظاهراتٍ للتضامن مع الفلسطينيين ونضالهم. كان "الزخم الفلسطيني" بمثابة تذكير سريع بأن القضية الفلسطينية لم تمت، ولم تُنسَ، كما يودّ كثيرون من مؤيدي ما تسمى اتفاقات أبراهام أن يعتقدوا ويجادلوا.
فشلوا جميعًا، مرةً أخرى، في إعمال القانون الدولي، وفشلوا في تحميل إسرائيل المسؤولية عن انتهاكها المستمر ذلك القانون
أما عن الاستجابات الدولية إزاء التصعيد، ولا سيما استجابات الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، فجميعهم فعلوا ما يُحسنون فعله: الولايات المتحدة استمرّت في دعمها غير المشروط لإسرائيل، بينما أصدرت الأمم المتحدة بيانات إدانة، ودعت إلى التهدئة، وأعرب الاتحاد الأوروبي عن قلقه. لقد فشلوا جميعًا، مرةً أخرى، في إعمال القانون الدولي، وفشلوا في تحميل إسرائيل المسؤولية عن انتهاكها المستمر ذلك القانون. فقد شهدنا تراجعًا أكثر في شرعية مؤسسات الحوكمة العالمية الرئيسية، مثل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ورأينا عجز الهيئات السياسية التابعة للأمم المتحدة، وتواطؤ الاتحاد الأوروبي والفاعلين الرئيسيين فيه، مثل ألمانيا، في دعم الاحتلال العسكري، وإدامة الاستعمار وتطبيع الفصل العنصري والأبرتهايد.
كذلك شهدنا أيضًا تواطؤ الإدارة الأميركية مع إسرائيل في تدمير غزة، ومن ثم إعلانها العزمَ على إعادة بنائها في تعبيرٍ يُجسِّد منتهى الوقاحة والغطرسة غير المستغربة. ورأينا الأمم المتحدة تلعن الوضعَ البائس، لكنها تقف عاجزةً عن فعل ما يضمن عدمَ تكراره في المستقبل القريب. ورأينا الاتحادَ الأوروبي يصبح جزءًا راسخًا من المشكلة، وليس جزءًا من الحل، دليلا صارخا على أنه لم يتعلم من دروس الماضي، على الرغم من تدخلاته المتواصلة منذ عقود في فلسطين - إسرائيل. الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، على وجه الخصوص، لم يخذلا الشعب الفلسطيني وحسب، بل خذلا المبادئ التي يزعمان إنهما يمثلانها ويجسّدانها، مثل العدالة والحرية والمساواة والكرامة.
يُعد الاستعمار أحدَ أكثر أشكال الاضطهاد التي يسهل تمييزها في العالم. ومع ذلك، قرَّر بعض الفاعلين الرئيسيين في المجتمع الدولي غضَّ الطرف
جديد حلقات المواجهة والاشتباك والتصعيد لم تفضح إسرائيل والمشروع الاستعماري الاستيطاني وتعرّيهما وحسب، بل كشفت وعرّت أيضًا مدى دعم بعض الفاعلين الرئيسيين في المجتمع الدولي هذا المشروع دعمًا مباشرًا وغير مباشر. يُعد الاستعمار أحدَ أكثر أشكال الاضطهاد التي يسهل تمييزها في العالم. ومع ذلك، قرَّر بعض الفاعلين الرئيسيين في المجتمع الدولي غضَّ الطرف، والسماحَ لإسرائيل بأن تنتهكَ القانون الدولي، وتُفلتَ من العقاب. وإذا كان المجتمع الدولي جادًا في حل "الصراع الفلسطيني الإسرائيلي"، فهو يعرف من أين يبدأ وكيف. الأمر ليس معقدًا حقًا، كما يحبون أن يعتقدوا ويجادلوا.
أخيراً، ينبغي للقيادات السياسية التقليدية الفلسطينية أن تتعلم من شعبها، فقد قدَّم هذا الشعبُ الثائر في شوارع فلسطين (كل فلسطين) لقيادته، مرّة أخرى، درسًا مهمًا: توقفوا عن نهج/ نموذج الإرضاء الدولي لإقناع الجهات الخارجية بأنكم تستحقون الحقوق؛ واستثمروا بدلًا من ذلك في نهج داخلي ينطلق من قاعدة القوة المبنية محلياً، في السعي إلى إحراز حقوقكم وإعمالها. عندها فقط سيُضطَّر أولئك الفاعلون الخارجيون إلى التعامل معكم على قدم المساواة، فعندما تكون قاعدة القوة الداخلية قادرةً على زعزعة الركائز الأساسية للوضع الراهن المُجحف، وقادرةً على زعزعة الاختلالات الحالية في هياكل القوة ومنظوماتها، عندها ستأتي القوى والجهات الفاعلة الخارجية إليكم، بدلاً من أن تذهبوا إليها. وهذا مهمٌ لنجاح أي عملية تفاوضية، ومهمٌ لإدراج عناصر المساءلة والمحاسبة في العلاقة المشوّهة حاليًا بين القيادة السياسية الفلسطينية والجهات الخارجية. مؤكّد أن القيادة السياسية الفلسطينية الحالية ليست مهتمة، ولا مستعدّة لتبني نهج المواجهة هذا، ولكنَّ هذا الدرس هو بالأساس لجيل قادة المستقبل الصاعد في فلسطين.