صفحات مطوية من حرب أكتوبر
تحتفل مصر هذه الأيام بالذكرى التاسعة والأربعين لحرب أكتوبر 1973. وقد بدا واضحاً هذا العام أن ثمة ربطاً رسمياً وإعلامياً بين إزالة الاحتلال واستعادة الأرض هدفاً قومياً، ومواجهة مشكلات مصر وأزماتها الراهنة، واتخاذها تحدياً قومياً تجب مواجهته، وهو ربط تعسّفي ومقارنة ظالمة لحرب أكتوبر. فلا وجه لمقارنة تحرير الأرض مع مشكلات اقتصادية وأزمات معيشية ناتجة، ببساطة، عن سياسات خاطئة وقرارات فردية بالكامل. بالتالي، هي قابلة للحل، إذا جرى تعديل هذه السياسات وتصحيح نمط صنع القرار واتخاذه، فمهما تحامل الشعب على نفسه وتكبّد من أعباء وضيق عيش وعُسر معيشة، تبقى خيوط الحل فوقية، أي في أيدي من صنع المشكلة، لا من يكابدها.
لوحظ أيضاً على الاحتفاء الرسمي والإعلامي بذكرى أكتوبر التركيز على الجانب الدعائي والتوجيه المعنوي. من دون اهتمام ملائم بالتفاصيل والوقائع المرتبطة بالحرب، أو المصاحبة لها، كما كان الحال في سنوات خلت. ولا تزال قصّة تلك الحرب حُبلى بأسرارٍ ودلالاتٍ لم تتكشّف بعد. يتعلق بعض تلك الأسرار بمسائل عسكرية ذات أبعاد أمنية واستراتيجية، خصوصاً ما يتّصل منها بالتسليح، وتكتيكات القتال، والأداء العملياتي خلال الحرب. وتتكشّف بعض تلك الأسرار تدريجياً، وإنْ بصعوبة، وتناثر متعمّد في المعلومات التي يجري إعلانها.
وكانت مصر قد أفرجت عن بعض الوثائق المتعلقة بالحرب، في عام 1998، بمناسبة مرور ربع قرن عليها، غير أن معظمها كان متوسّط السرية وبعضها لم يكن كذلك أصلاً، لذا ربما يحمل العام المقبل مزيداً من التدفق في المعلومات وتُرفع السرّية المفروضة عليها، إذ سيكون مر على الحرب نصف قرن، وهي الفترة المحددة لدى معظم الدول قبل الإفراج عن السجلات السرية الخاصة بالحروب والعمليات العسكرية الكبرى.
ولكن ثمّة جوانب تخرُج عن نطاق الأسرار العسكرية المباشرة، والبعد السياسي فيها واضح. من أهمها الأدوار التي لعبتها الأطراف الأخرى غير مصر وإسرائيل، سواء التي دعمت تل أبيب وساندتها، أو التي وقفت إلى جانب مصر. الدول التي ساندت إسرائيل علناً وصراحة معروفة، لكن التي ساندتها فعلياً من دون إعلان هي التي ينبغي معرفتها، بل وترميزها بوضوح، إذ تتحفّظ مصر دائماً عن ذكرها علناً، ربما باستثناء إشارات سريعة من الرئيس الراحل أنور السادات في بعض كلماته وخطبه الطويلة. وكانت غالباً تأتي ضمن تراشق أو توتر مع هذه الدولة أو تلك، لكن خريطة الدول التي دعمت حرب أكتوبر أو عرقلتها تحتاج معلومات دقيقة وواضحة وموثقة.
وبين الجوانب العسكرية وتلك السياسية، هناك أيضاً مسائل ملتبسة ومتداخلة. من أهمها التقييم الاستراتيجي النهائي لحرب أكتوبر. أو بعبارة أوضح، الأهداف الاستراتيجية النهائية التي كانت مرجوّة منها، وما إذا كانت تحقّقت وبأي نسبة. يسهل على أي محلّل سياسي أو عسكري القول إنها كانت حرب "تحريك" لا حرب "تحرير"، لكن الجزم بهذا التقييم وتثبيته في سجلات تاريخ مصر الحديث يجب ألا يستند إلى استنتاجات تحليلية، أو حتى شهادات عسكريين كبار، مثل الراحل الفريق سعد الدين الشاذلي، وإنما إلى وثائق رسمية، مثل الأمر الاستراتيجي الصادر من القيادة السياسية إلى القيادة العسكرية المباشرة، ومحاضر اجتماعات غرفة العمليات، وما شهدته مجريات الحرب من تغييرات عملياتية، تكتيكية كانت أو استراتيجية.
وبدلاً من توريط الشعب المصري في تحمّل نتائج إخفاقات السلطة وكوارثها بحجة استحضار روح أكتوبر، فالأوْلى كشف ما لا يزال خافياً من حقائق تلك الحرب وأسرارها، وإظهار ما يتعلق بها من أوراق ووثائق. أما ذريعة السرّية التي جرى التذرع بها طوال العقود الماضية، فلا حُجّية لها مع اقتراب تلك الحرب التاريخية من عامها الخمسين.