صلالة: خريف برداء الربيع
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
تذهب في هذه الفترة من الحرارة اللاهبة بسيّارتك من مسقط إلى صلالة، عبر طريق طويل تزيد مسافته على عشر ساعات صحراوية قاحلة في معظمها، ثمّ يواجهك جبل إيتين، تصعَد منه عبر "عقبة الياسمين" التي ستكشف لك عالماً آخر من الحرارة المُعتدلة، والضباب يُغطّي مجالات الرؤية، ولا يسمح لك بالنظر أبعد من مترَين. ولكن، الأكثر أهمّية أنّ الجغرافيا تتحوّل فجأةً من صحراوية، تخوضها ساعات، خضرةً كاملةً، فتتحوّل جميع الجبال إلى سهول خضراء. سيكون جسدك وجسم سيّارتك فوق بساط أخضر يسبح في الأعالي، ويتناسخ في مدار الرؤية، وجوٌّ رذاذيٌّ جميلٌ يصعب وصفُه من دون تدخّل الشعر. الغريب أيضاً يشمل المُسمّى نفسه، فنحن في عُمان نسمّيه "الخريف"، وهو يقع في فصل الصيف، لكنّه، من حيث الطبيعة الخضراء، ربيع، ولكنّ تسميته خريفاً "سارت" بين الركبان. يتعلق الأمر بالثلاثة أشهر الأكثر حرارة في مسقط على الإطلاق؛ يونيو/ حزيران، ويوليو/ تمّوز، وأغسطس/ آب.
يمكن القول إنّ أكثر من 40% من العُمانيين يذهبون في هذه الفترة إلى صلالة، سواء من طريق الرحلات الجوّية التي تسيّر رحلاتٍ يومية، أو من الطريق البرّي. وقد اهتمت الدولة في آخر سنوات بالتفاصيل المُتعلّقة بالخريف، سواء من ناحية البنية العمرانية؛ من فنادق ومرافق بحرّية وجبلية، أو من حيث الفعّاليات الترفيهية التي تقام طوال فترة الخريف الظفاري. هناك من يستأجر بيتاً أو شُقّةً أو غرفةً في فندق. في المقابل، ثمّة من الطلبة والشباب من ينصُبون خياماً في المرتفعات الجبلية. وعادةً لا يكون الحديث بين الأُسر في مثل هذه الأيّام إلّا عن هذا الخريف، والانتقال إليه جماعاتٍ. وعادة لا يمكثون أكثر من أسبوع أو عشرة أيّام. لكنّ خريف صلالة أصبح كذلك قِبلة للزوّار من مناطق دول الخليج العربي من العائلات. مع الدعوة إلى استثماره أكثر، مثلاً بعمل رحلاتٍ طلّابية إلى جبال صلالة. فالاستثمار، سواء السياحي أو الاقتصادي للخريف، ما زال دون المستوى المطلوب، ولكنّه يتطوّر من سنة إلى أخرى، إذ خفّت، مع الوقت، تلك الانتقادات التي نسمعها مراراً وتكراراً، والمتعلّقة بتدنّي مستوى الخدمات السياحية. يمكن الحديث حالياً، بشيء من الاطمئنان، عن نسبة معقولة من الاهتمام السياحي، حتّى إنّ نبرة الانتقادات خفّت بصورة ملحوظة. يُعرَف الريف الظفاري في فترة الخريف أيضاً، بانتشار باقةٍ من الثمار الموسمية، مثل الموز وجوز الهند (يسمى محلّياً المشلي)، وبوفرة كبيرة، وبأسعار مناسبة. هكذا، فالسائح سيقضي وقتاً مع هذه الفاكهة بصورة أساسية. كذلك تنتشر مطاعم الشواء. تأخذ بعض العائلات معها عدّة الطبخ في السيارات، وهناك يمارسون الطبخ جزءاً من متعة الرحلة. ثمّة أيضاً عنصرٌ عطريٌّ تمتاز به محافظة ظفار، وهو اللبان الظفاري ذو الرائحة الزكيّة المُميّزة. وسيكون على رأس الهدايا التي يجلبها معه كلّ زائر.
يصلح هذا الجو الشاعري كثيراً للعطل التأمّلية. بل هو مثالي لهذا الغرض. أتذكّر أنّ الكاتب الجزائري واسيني الأعرج، حين زار صلالة مرّة بدعوة من مهرجانها، انبهر بما رأى، فقال لي إنّه سيأتي بنفسه في خريفٍ مُقبلٍ إلى صلالة لكي يُدبّج إحدى رواياته. وإذا كان قد حدث وجاء إلى صلالة في الخريف من أجل عمل إبداعي، فلا بدّ أنّه لم يخبر أحداً. وهذا ما توفّره صلالة في أوقات الخريف من عزلة تأمّلية للتفكير في أيّ مشروع كتابي، حيث في صلالة أيضاً مجموعة مُهمّة من الفنادق الراقية، وبأسعار متفاوتة.
تظلّ صلالة متنفّساً شعبياً سنوياً، خصوصاً للأُسر التي يصعُب عليها السفر بالطائرة في قيظ الصيف إلى بلدان باردة نسبياً. ستكون صلالة البديل الطقسي الذي يُعوّضهم. في عزّ الصيف ولهيب الحرارة سيجدون خلف تلك الجبال البعيدة طوق نجاةٍ تقلب المزاج والجو رأساً على عقب. وكأنّك تتنقّل من فصلٍ إلى فصل عابراً الزمن، وليس المكان فحسب.
حين زار نزار قباني صلالة في 1993، ترك فيها بعض الكلمات: "إنّها قصيدة وإنّها قمر/ وإنّها حورية تسبح في مياه بحر العرب/ وإنّ من لا يزورها يقرأ نصف القصيدة/ ويرى نصف القمر/ ولأنّني لا أؤمن بأنصاف الحلول/ لا مع المدن ولا مع النساء/ فقد قررت أن أزوركم في صلالة/ حتّى أقرأ القصيدة كاملة/ وأرى القمر بكامل استدارته".
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية