صورة عربية في مرآة روسية
التاريخ لا يكرّر نفسه، لكن بعض الأمم يمكنها رؤية مسارها في مرآة مصير أخرى... وأنماط التنظيم السياسي الغربية وهي تنتشر (وفي حالات كثيرة تستنسخ) من الغرب لمختلف أنحاء العالم تكشف عن "متوالياتٍ" يمكن أن تتحقّق مرّة ومرّات، بدرجات تشابه مختلفة، كلما نضجت مقدّماتها. ومنذ منتصف القرن العشرين، كانت عدة دول عربية "تتبلشف"، وهي تستنسخ تجربة البلاشفة السوفييت، وهو استنساخٌ لم ينقل حلو التجربة ومرّها، بل نقل من التجربة "المرّ" و"الأكثر مرارة"!
وفي مرآة المأزق الروسي الراهن، يمكن استشراف مخاطر مآلات مأساوية محتملة للسياسات الشمولية العربية التي ما تزال حبيسة "القفص البلشفي الحديدي" في أفكارها وممارساتها وخطابها، و"الثورة المضادة العربية" أطلقت مداً شمولياً تجاوز أحياناً الممارسات الاستبدادية التي سبقت هذه الثورات. و"الملكيون أكثر من الملك" هم، غالباً، من يصنعون المصائر الأشد مأساوية. وفي موقفٍ يمثل استثناءً من حالة الانصياع التام الذي يحكم أداء البيروقراطية الروسية، جاءت استقالة الديبلوماسي بوريس بونداريف (مستشار بعثة روسيا لدى المقر الأوروبي للأمم المتحدة في جنيف) لتفتح كوّة في الصندوق المغلق بإحكام، وليمنح الفضوليين فرصة اختلاس نظرة داخل عقل البيروقراطية البوتينية. وفي حوار معه (سويس إنفو، 14/9/2022) كشف عما يستحق التوقف عنده.
"الملكيون أكثر من الملك" هم، غالباً، من يصنعون المصائر الأشد مأساوية
أول القضايا التي يثيرها بونداريف: "المسؤولية"، والمهم هنا قوله فيما يتعلق بقرار الحرب "هناك أشخاصٌ محدّدون، يمكن اعتبارهم مذنبين"، "فكل من شارك في اتخاذ قرار الحرب، وكل من أعدّ لتنفيذه، وكل من يقوم بقتل المدنيين... يتحمّل المسؤولية". و"المجتمع ككل يتحمّل المسؤولية الأخلاقية عما يجري، لكنه لا يتحمّل المسؤولية بالمعنى القانوني أو الجنائي"، وهذا الفهم المركب لمعنى المسؤولية أصبح ضيفاً غير مرغوب فيه في البيروقراطية التي أعاد بوتين "قولبتها" على القواعد السوفييتية.
ولأن بونداريف لا يرفع الشعار البائس: "أنا عبد مأمور" الذي يتخفّى خلفه أعوان المستبدّين العرب، فإنه يعترف بنصيبه من "مسؤوليته الفردية" عن واقع روسيا السياسي، يقول بونداريف: "فيما يتعلق بي، أعترف بأن جزءاً من هذه المسؤولية على عاتقي"، فمثلًا "الأحداث التي أدّت إلى تعزيز سلطة بوتين، منذ عام 2000... هذه الأحداث، لم يجر تأويلها في حينه بالطريقة نفسها التي يجرى تأويلها اليوم". "شخصياً لم أعر هذه الأحداث اهتماماً كثيراً. كان هناك شعور بالعجز، لا سيّما من شخص واحد، فإذا قرّر شخصٌ ما في موقع السلطة العليا القيام بأمر ما فسيتم هذا الأمر من دون الأخذ بعين الاعتبار إرادة الشعب أو رغباته. ومنذ العهد السوفييتي، هكذا كانت تجري الأمور". وهنا نتيجة مهمة، هي شحوبُ القدرات العقلية للمجتمعات المحكومة بالشمولية، بحيث لا تدرك حقيقة بعض ما يجري حولها إلا بعد وقوع الكارثة، وقديماً قال المثل العربي العبقري: "أخزى الله الرأي الدبري"، هو الرأي الذي يهتدي إليه صاحبه بعد المصيبة، وتأمَّل ما فعلته "الثورة المضادّة" في بعض دول "الربيع العربي" تدرك التشابه المشار إليه في أول المقال.
الأكاذيب، بطول ترديدها، تستولي حتى على عقل صانعيها
ويلخص الديبلوماسي الروسي بونداريف المشهد الروسي، قائلاً إنّ بوتين أعاد إنتاج البلشفية من دون أيديولوجيا. وهو يكشف أن الدولة الروسية احتلت القرم بعد أن قرّرت "المواجهة مع الغرب"، ثم بدأت حملات دعائية لإحياء الأفكار السوفييتية، و"وزارة الخارجية الروسية تأثرت بهذه الأفكار بعد تنامي انتشارها، حتى أصبحت تشكّل تدريجياً أسس السياسة الخارجية للبلاد"، وهذا يعني أن الأكاذيب، بطول ترديدها، تستولي حتى على عقل صانعيها، وتلك أحد أوضح ملامح "بؤسنا العربي" في مرآة البوتينية. وفي اعترافٍ صادم، كأنه يتحدّث فيه عن بعض بلادنا، يقول: "لم يكن إلمام الحكومة الروسية بالتطوّرات الجارية في العالم على المستوى المطلوب"، وهذا سبب قرار شن الحرب. وعن نظرة قادة الكرملين إلى العالم يقول إنهم يعتبرون أميركا تحكم الغرب، والصين تحكم آسيا، وروسيا يجب أن تحكم "أوراسيا". "وهذه النظرة ... بدائية للغاية"، و"معظم أعضاء الكرملين عملاء سابقون في المخابرات السوفييتية"، ومن تكون مهمتهم "البحث عن المؤامرات، ينتهي بهم الأمر إلى توجّس وجود المؤامرات في كل مكان"، وتلك ثمرات حكم رجال الدائرة الأمنية هنا وهناك.
إنها صورتنا في مرآتهم، وصدق ربّ العزة: "وقفوهم إنهم مسؤولون"!