طبق كل يوم: مرقة الأمل بعظمة اليأس
مُدح الأمل كثيراً، وقال القدماء فيه شعراً، وأشهره قول الطغرائي: أعلِّلُ النفس بالآمالِ أرقُبُها/ ما أضيقَ العيشَ لولا فسحةُ الأمَلِ. ... لكن البيت لا يكتمل معنىً إلا بالبيت الثاني، الذي يسدُّ خلله، ويسدِّد زلـله: لم أرتضِ العيشَ والأيامُ مقبلة/ فكيف أرضَى وقد ولَّتْ على عجل. ... لم يكن أحد يصدق أنَّ الحرب في غزّة ستطول "شهوراً أحقاباً"، وقد تطول إلى رمضان، الذي يريد الإسرائيليون أن نعتكف فيه لمشاهدة مسلسلات الدراما. وكان حكّامنا من باعة حشيش الأمل "إيزو وليمتد". أما أميركا، فهي من أكثر باعة سراب الأمل يا كمّون، مغلفاً بالمواعيد، وموثقاً بمعاهدات دولية ذهبية الحبر، فقد وعدت بحساء الدولتين، وهو وعدٌ قديم، عمره 75 سنة، وعْد الدولة الفلسطينية التي سيحكمها أبو مازن الهلالي سلامة، أو من هو على شاكلته، التي قد يكون لها اسم عظيم مثل القرى العربية المتحدة، أو الحارات الفلسطينية المتّحدة. دولة منزوعة الشوك، بلا حسك، تؤكل نيئةً عند الجوع، بمعتقلات شعبية، ووزارة تموين تديرها "أونروا". دولة الحزّورة التي ليس لها حل؛ لرئيسها سجادة حمراء، وسكانها عبيد، ومفتاحها حديد.
نسمع، منذ اليوم الأول من حرب غزّة، الرئيس الأميركي وهو يعظ إسرائيل بإدخال المساعدات الغذائية وتجنّب المدنيين، وعدد الضحايا في ازدياد، وقد نافوا على الثلاثين ألفاً، وأرى الآن على الشاشة سيدة فلسطينية ومعها طفلها مغدورين، والمسعفون يصيدونهما بسنّارة من البرّ، من وراء الجدار، استنجاءً من القتل.
هذه هي زيارة شيف الآمال الخامسة أنطوني بلينكن إلى الشرق الأوسط، ولا أعرف لمَ لا يستأجر غرفتين وصالة في أهم الولايات الأميركية وأغناها باللبن والعسل والحشيش، وهو يدور في كل زيارةٍ على البلدان العربية، منشّطا السياحة السياسية، ويوصي رئيس وزراء إسرائيل بالتقليل من البهارات الحمراء، ويجلس بين يدي نتنياهو على كرسي واطئ، لكن المشكلة أنّ "حماس" تتخذ المدنيين دروعاً بشرية، كأنَّ هذا يجيز قتلهم؟
كلما سمعتُ زعيماً أميركياً يتحدّث عن خريطة طريق أتحسّس نعلي، ويبدو أنّ رئيس وزراء إسرائيل سيجتاح رفح، لكن عطوفته سيوفّر للمدنيين ممرّاً آمناً، وطريق حرير، وتلفريك بين الضفة والقطاع، ومعونات بسعراتٍ حراريةٍ عالية، وقد رأينا الممرّات الآمنة المعبّدة بالجثث، والشاحنات وعربات حمير وسيارات الإسعاف!
وقد اتصل أبو تفليقة الأميركي، الذي يطمح لدورة رئاسية ثانية، بالرئيس "المكسيسي"، وطلب منه فتح معبر رفح، ومن حليفه رئيس وزراء إسرائيل الذي تربطه به علاقة تلخصها أغنية "أخاصمك آه أسيبك لا"، غزو رفح بضمانات وخطة طريق، وقد أعرب الأمين العام للأمم المتحدة عن قلقه البالغ من اقتحام رفح، وكذلك فعلت دول أخرى، القلق هو النار التي يطبخ بها مرق الأمل المسموم.
اليأس نعمة كبيرة من نعم الله، وهو عند العرب "إحدى الراحتيْن"، لقد طال الأمل المكسيكي، وكان أبصر المحلّلين السياسيين يتوقّع أن تنتهي الحرب مع نهاية السنة المنصرمة، أو مع تمام المائة يوم، لكن حكّام المباراة يمدّدون مرقة الأمل بمياه البحر. يأمل بعضهم أن تصفّر محكمة العدل الدولية صفارة انتهاء المباراة الدامية، ويأمل بعضهم أن تقفو دول أخرى أثر جنوب أفريقيا وترفع دعوى جديدة لوقف المباراة.
الأمل ضرورة للعيش، لكنه أيضاً خدعة، ومرُّ المذاقة، وقد خدعت به تلك المرأة في أخبار عمر، وهي تسلّي صغارها الجياع بطبخ الحصى. الصبرُ كنية للأمل، وهو خير لو كان معه قول الحقّ. أما الصبر من غير قول الحق، فمرقٌ لا يشبع من جوع، كان محمود درويش كلما فكَّر بالأمل أنهكه التعب والملل. قال أبو العتاهية: لايَذهَبَنَّ بِكَ الأَمَل/ حَتّى تُقَصِّرَ في العَمَل/ فَقَدِ استَبانَ الحَقُّ وَاِتَّضَحَ السَبيلُ لِمَن عَقَل.
اليأس هو الأمل مقدّدا. الأمل شمعةٌ تتدفأ بها مرسومة في لوحة حسنة الصنع.