25 اغسطس 2024
طب وبيطرة وحجامة وقلع أضراس
تتنقل حياتُنا، نحن مواطني (أو رعايا) الدول المتخلفة، بين الطب، والبيطرة، وقلع الأضراس، والحجامة، والختان، والصَّيَاعة في الشوارع. فأنا الذي كنتُ متفوقاً في المرحلة الابتدائية لم يطالبني أحد بأن أبقى متفوقاً في الإعدادية، ولم يؤهلني مجموع علاماتي في الثانوية لدراسة الطب البشري، وتعليق آرمة مكتوبٍ عليها اسمي مسبوقاً بكلمة دكتور، بل أهّلني لدراسة الهندسة المعمارية في جامعة حلب، ولكن هذا، مع ذلك، لم يُرضِ الفقر الذي (نَصَبَ حول أُسْرَتي دبكة) بعد وفاة الوالد، فانتقلتُ، تعسفياً، إلى كلية الاقتصاد، واختصصتُ بالمالية والمحاسبة، وتخرجتُ موظفاً، في جهاز الرقابة المالية، وبعدها بقليلٍ أدركتني حرفةُ الأدب، فتخليت عن وظيفتي، وانتهتْ أموري إلى ما علمتمْ.
ينطبق الشيء نفسه على صديقي عبد القادر عبداللي الذي كره دراسة الرياضيات والفيزيا والكيميا التي كانت تُخْتَصَرُ باسم (ر. ف. ك) في جامعة حلب، وسافر إلى النمسا ليدرس الاختصاص ذاته، وعاد حافياً حتى من خُفَّي حنين، ثم شكا للعم الطيب، رضوان فاخوري، من أن والده الحاج خيرو عبدللي (كان من أبرز الرواة الشفاهيين الفكاهيين في مدينة إدلب وريفها) رَفَضَ إرسالَه إلى تركيا لدراسة الفن التشكيلي، مع أن هذه الدراسة هي الشيء الوحيد الذي يمكن أن يتلاءم مع مزاجه المعتكر على الدوام، فتوسط له عنده، فوافق.
عاد عبد القادر من إسطنبول إلى إدلب، في أواسط الثمانينات، متسلحاً بشهادة في الرسوم المتحركة من جامعة المعمار سِنَان، وبمقدرةٍ فنية استثنائية على رسم لوحات تتحقق فيها التقنيةُ العالية، والألوانُ الغريبة، والجنون.
لم تكن كلمة الجنون، بالنسبة لصديقنا الراحل عبد القادر، موضعاً للذم، وهي ليست مَزحة، فقد كان يُصَنِّفُ الناس ضمن مراتب يقع في أعلاها المجنون، ويضرب مثلاً بنفسه، والعاقل، يدلل عليه بي، لأنني، برأيه، أستطيع أن أتعايش مع مختلف أصناف البشر،... والخرفان، والمهستر، حتى تصل إلى أدنى مرتبةٍ وهي المرضان؛... والمرضان درجاتٌ تصل، في بعض الحالات، إلى ضرورة إحضار (النَقَّالة) لإسعافه، مثلما يحصل في مباريات كرة القدم، حينما يحتك لاعبان بعنف، ويسقط أحدهما على الأرض مثل كيس الخردق!... وفي ذات يوم، كان عبد القادر يمشي في سوق الصاغة بإدلب، وكان وراءه صديقُه المرحوم مازن بدلة الذي ناداه، يا أستاذ، يا عبد القادر، يا أبو خيرو، يا أبو محمد، وهو لا يرد، فقال له: يا مجنون، فالتفت عبد القادر وقال: نعم.
لم تَقْبَلْ أيامُنا، نحن رعايا الدول المتخلفة، أن يتحول صديقُنا عبد القادر عبداللي إلى فنانٍ كبير يبلغ حدود العالمية بلوحاته التي تمتاز بالتقنية العالية، والألوان الغريبة، والجنون، إذ سرعان ما نصبَ الفقر حوله دَبْكة، وصار لزاماً عليه أن يشتغل في التدريس، حتى يشارف النهار على الانتهاء، ثم يجلس وراء مكتبه، ليمضي المساء والسهرة وهو يكتب الزوايا الصحفية لجريدة السياسة الكويتية، ويترجم عن الأدب التركي، مؤملاً أن يجد وقتاً يعود فيه إلى الرسم، وكثيراً ما كان يؤسّس اللوحة، ويتركها أياماً طويلة، ريثما يُنهي ترجمة كتاب لدار النشر الفلانية، ومسلسل لدار الإنتاج العلانية، وكان، كلما تحسّنت أحواله المادية، كبرت أسرته وازدادت متطلباته، إلى أن تجاوز رصيده من الكتب المترجمة السبعين، وأصبح علماً من أعلام الترجمة عن اللغة التركية.
في سنة 2000 وَقَّعْنا، أنا وعبد القادر عبداللي وتاج الدين الموسى وعبد العزيز الموسى على "بيان إحياء المجتمع المدني"، فأصبحنا نروح ونغدو إلى فروع الأمن أكثر من حافلات النقل العام، ولكنّ المُخبرين لم يعدلوا بيننا نحن الأربعة، إذ أصبح تاج وعبد القادر يُسْتَدْعَيَان أكثر منا، أنا وعبد العزيز الموسى، كما تميز عنا عبد القادر بأمر آخر، وهو أننا كنا نستدعى لفروع إدلب، وأما هو فكان يُطلب للفروع الكبرى في دمشق.
رحمك الله يا عبد القادر.