طوفان الأقصى القادم
الحاصل فعليًا أنّهم يحاصرون المقاومة من كلّ الاتجاهات، مدفوعين بالوهم الخالد الذي يصوّر لهم أنّه بالإمكان قتل القضيّة بقتل أصحابها، أو إبعادهم، أو تهجيرهم.
نعم، مشروع المقاومة الفلسطينية تحت الحصار الآن من الأشقّاء قبل الأعداء، كلّهم مشاركون في محاولة تطويقه بالمبادرات والخيانات والمعونات والمنح، لكن منذ متى لم يكن هذا المشروع محاصراً ومستهدفاً! يقول لنا التاريخ البعيد والقريب إنه في كلّ مرّة يظنون أنّهم كسروا شوكة المقاومة، وألقوا بها خارج نطاق الجغرافيا، وتمكّنوا من فرض خرائطهم الجديدة، تنهض المقاومة أكبر وأقوى مثل طائر العنقاء الأسطوري، كلّما احترق انبعث أقوى.
الآن يبدو الصهيوني واثقاً من أنّه حال اجتياح رفح لن يجد من يوقفه، وكلّ ما في الأمر أنّهم سيُصدرون مزيداً من البيانات التي تندّد بالخطوة غير المحسوبة، وتطالب بحماية المدنيين، ولا بأس من بعض الوقفات والتظاهرات المحدودة في هذه العاصمة العربية أو تلك، تلعن الصهيونية والإمبريالية والاستعمار القديم، وبعدها يُعاد إنتاج مأساة غزّة طوال ستة أشهر مضت.
اجتياح رفح أو عدم اجتياحها يبقى موضوعاً بين الاحتلال الإسرائيلي والولايات المتحدة فقط، والخلافات بينهما في هذا الصدد تتعلّق بحجم الخسائر وعدد الضحايا، لكن من حيث المبدأ والغايات والوسائل لا يوجد أي اختلاف، إذ إنّهما متوافقان، وبالتبعية سرب طويل من العرب الرسميين، على ضرورة القضاء على المقاومة الفلسطينية واقتلاعها من الوجود.
بحسب مراسل التلفزيون العربي، أحمد دراوشة، أكد وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون دريمر، أكّد عزم إسرائيل على الدخول إلى رفح، حتى لو أدّى ذلك إلى شرخ عميق في العلاقات مع واشنطن، وهو الموقف الذي يعبّر عنه بنيامين نتنياهو، وغيره من الصهاينة، وكلّهم يقين بأنّ أيّ شرخ في العلاقات مع واشنطن سيكون سطحياً وعابراً بسرعة، وبعدها يعود كلّ شيء أقوى مما كان.
المؤكّد أنّ واشنطن ليست ضدّ توّغل إسرائيلي في رفح، لكنها لا تريده الآن، وبحسب الأنباء الخاصة بهذا الأمر، فإنّ أميركا تريد إرجاء العملية البرّية في رفح عدّة أشهر، على أن يخصّص هذا الوقت للتركيز على الدفع نحو استقرار الوضع الإنساني في غزّة، وإعادة تأهيل شمال القطاع وبناء أماكن تأوي السكان الذين هُجّروا إلى رفح مجدّداً في هذه المناطق، وعند إتمام هذه الخطوات سيكون بالإمكان إخلاء السكان من رفح والقيام بعملية عسكرية في المدينة، وسط مخاطر أقلّ بكثيرٍ بشأن المسّ بالمدنيين.
من ضمن الأفكار المطروحة أيضاً التركيز في المرحلة الأولى على تأمين الحدود بين مصر وغزّة، وتنفيذ خطّة أميركية إسرائيلية مصرية مشتركة لتدمير الأنفاق تحت محور فيلادلفيا وإنشاء بنى تحتية تساعد على منع تهريب السلاح إلى غزّة.
تحضُر مصر هنا، كما كانت في عدوان 2014 باعتبارها طرفاً في تحالف ثلاثي ضد المقاومة، من دون أن يصدُر تعليق من القاهرة التي استقبلت وزير خارجية أميركا، أنتوني بلينكن، الذي تسبق صهيونيته دبلوماسيته بخطوة، أو تصريح يقول إنّ مصر ليست شريكاً في تنفيذ الرغبة الأميركية الإسرائيلية.
نعم، المؤامرة على مشروع المقاومة أكثر اتساعاً مما نتخيّل، لكن هل يدفع ذلك إلى اليأس والتشاؤم والتسليم بأنّ "طوفان الأقصى" قد انكسر أو كان قفزة في الهواء وانتهت؟
القضاء على المقاومة هو الوهم الذي أسقطته حركة التاريخ، منذ إخراج المقاومة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، ومعه رجاله من بيروت في أغسطس/ آب 1982 عن طريق البحر على ظهر الباخرة أتلانتس التي تحمل العلم اليوناني، نتيجة للاحتلال الصهيوني للأراضي اللبنانية وارتكابه مجازر ضد مخيّمات الفلسطينيين. خرج عرفات باكياً وهو يشاهد الخذلان العربي في كلّ مكان، ليستقرّ الحال بالمقاومة في تونس، لكن هل توقّف النضال والكفاح داخل الأرض المحتلة؟
تجيبنا الانتفاضة الفلسطينية الأولى في يناير/ كانون الثاني 1987 كاشفة عن قياداتٍ جديدةٍ لمشروع التحرير، مسجلةً واحدةً من أنبل ملاحم الكفاح الشعبي من أجل التحرّر من الاستعمار في التاريخ، لتتواصل انتفاضة الحجارة خمس سنوات حتى عام 1992، ثم جاءت "أوسلو" حلاً أميركيّاً صهيونيّاً لإيقاف طوفان الثورة الفلسطينية.
انتعشت أوهام القضاء على المقاومة من جديد، فكانت عمليات اغتيال قادة الثورة الفلسطينية المؤسّسين، أبو جهاد وأبو إياد وأبو الهول، ظنًّا من العدو أنه بذلك يفسح المجال لمسار أوسلو الانهزامي وفرض تسويةٍ تبتذل المشروع الوطني الفلسطيني وتختزله في كانتونات اتفاق غزّة أريحا، غير أنّ فلسطين أنجبت مقاوماتٍ أخرى حملت الراية، ولم تتخلّ عن البندقية والحجر، فكان رجال الشيخ، أحمد ياسين، وتلاميذه، هم قادة الحلم الفلسطيني بالتحرّر، حتى تمّ إبعاد قيادات حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى الجنوب اللبناني، ظنًّا من الاحتلال وأعوانه أنّهم بذلك تخلّصوا من صداع المقاومة.
هل توقف الطوفان بعدها؟ ... بالطبع لا، جاءت انتفاضة وانتفاضات وسطرت ملاحم وبطولات، حتى وصل إلينا "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر (2023)، معلناً تحطيم كلّ الأوهام، ومؤذنًا بطوفان أكبر قادم لا محالة، رغم أنف كل ّالمتواطئين والمتخاذلين.