طوفان الأقصى... بشائر القطيعة المعرفية وانبعاث التفكير المستقل
نحتاج، بعد بيان الفيلسوف الألماني هابرماس (وزميلين له) الذي أيّد الكيان الصهيوني، وتعبيره عن حقّ هذا الكيان في الدفاع عن نفسه، مع إضفاء الشرعية على القتل للأطفال والنساء، بل وتشريع ارتكاب المجازر، إلى بيان إشكاليتين، أولاهما عن الانحياز المعرفي، والأخرى عن تداعيات عملية طوفان الأقصى، على المستوى الأكاديمي، في العلوم السّياسية، على الدّولة الوطنية، في العالم العربي، والقصد هو التّأكيد على أنّ ثمّة طريقا أخرى للمعرفة، وأنّ لمعاركنا مع العدو ثمارا كبيرة، حتى تلك المتصلة بالمجال الأكاديمي الذّي نحسبه إسهاما في صناعة الوعي وانبعاث الأمة، بعيدا عن بكائياتٍ وأخلاقيات تبين، مع المعركة، أنها مجرّد قناع سقط، بتعبير محمود درويش، رحمه الله.
هابرماس والانحياز المعرفي... قطيعة ابستمولوجية؟
وقّع هابرماس على عريضة لتأييد العدو الصهيوني في وحشيته ليتناقض مع مجمل ما كان ينشره من فلسفة وأخلاقيات، في حين لم يجد برتراند بادي من يسانده من أكاديميين، في فرنسا، وفي العالم، للتنديد بوحشية الرّدّ الانتقامي الصهيوني على "طوفان الأقصى"، بعد نشره بيانا تنديديا بجرائم الحرب في غزّة، وهو ما يطرح إشكالية الانحياز المعرفي ومطبّات المنهج الغربي الوافد علينا بتلك الإنسانيات، الأخلاقيات وما كان يصدّره إلينا من معارف أضحت في قطيعة ابستمولوجية تامّة مع العلم والمعرفة، وبعيدة عن الأخلاق، بعدا لا يدركه إلا من تعامل مع تلك الوحشية أو كان ضحيّة لها، في فلسطين، بوجه خاص.
يطرح "طوفان الأقصى"، في هذا الإطار، إضافة إلى تصحيحه معاني مفاهيم كثيرة (مقالة سابقة في "العربي الجديد" للكاتب)، إشكاليّة الانحياز المعرفي وأبعاد المنظورات الجديدة التّي أبانت عنها التغطية الإعلامية، اللُّغة الاتّصالية وإستراتيجية الانحياز الكامل للغرب للكيان الصهيوني في حربه وفي سرديته، من دون نقاش أو حتى قبول لأي رأي آخر يناقض ما روته المصادر الصُّهيونية عن عمليات 7 أكتوبر، ولا عما قبلها من احتلال واستيطان.
رؤى لجريمة الحرب تختلف باختلاف من يرتكبها أو طبيعة الضحية التي وقع عليها الجرم
كان عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، قد قاد، منذ حوالى عقدين، مشروعا بحثيا كبيرا بعنوان "الانحياز المعرفي في العلوم الاجتماعية" طرح فيه، وفريق من الباحثين من مختلف التخصُّصات العلمية الاجتماعية، وجهات نظر بشأن المنهج الغربي الوافد (تسمية أخرى للانحياز المعرفي كان أنور الجندي، رحمه الله، أوّل من كتب عنها في سبعينيات القرن الماضي) وأخطائه، وهو مشروع أصبح، مع عملية طوفان الأقصى، وما رأيناه من مواقف مخزية لمفكّرين غربيين، على بلاتوهات القنوات، أو من خلال كتابات لهم، كلها مساندة للسّردية الصهيونية للأحداث مع رفض أي نقاش لها أو مناقضتها مما يطرح، بشدّة وبإلحاح، إشكاليّة قبولنا كل السرديات التي كانت أساس العلم، التاريخ والرّوايات الغربية الخاصّة بما جرى في القرون الأخيرة، بل وطرح، أيضا، سردياتٍ مناقضة لإشكاليات الديمقراطية، الحرية وحقوق الإنسان، بما أنّ ثمّة طروحات خاصة بقيمة الإنسان في الغرب أكبر منها في مناطق أخرى، كما أنّ هناك رؤى لجريمة الحرب تختلف باختلاف من يرتكبها أو طبيعة الضحية التي وقع عليها الجرم.
أضحى، الآن، من اللازم، بل من الواجب القيام بمراجعة كاملة لتلك السّرديات التي قُدّمت لنا على أنّها حقائق، بما أنّ الكذب، الذّي ٍرأينا كيف تمّت تغطيته، بل التّعمية عنه، كان مسلمة عند مفكّري الغرب منذ اللّحظة الأولى التّي نشرت الصُّور الأولى لعمليات كتائب الشهيد عز الدين القسّام في 7 أكتوبر، وبدأت الهجمات وجرائم الحرب الوحشية على الإنسان والحجر تلقي بأطنان من القنابل، موقعة قرابة 20 ألفا من الشهداء، أغلبيتهم من النساء والأطفال الذين، للمفارقة، تم الاحتفال بيومهم العالمي، في وقتٍ كانت فيه الجرائم تقتل منهم من دون تمييز.
كان للتطوّر المقلوب، أو ما جرت تسميتها المركزية الأوروبية، انحياز في كلّ شيء، حيث كانت الرؤية الأولى لبعض البشر والمناطق الجغرافية، خارج الإطار الأوروبي، اكتشافات جغرافية شكّلت مقدمة لفكرة الاستيطان بشعار "أرض بدون شعب لشعب بدون أرض"، وهي ترجمة حرفية "سرقة أرض من قبل شعب مع تقتيل صاحبها أو استعباده"، ذلك القانون الرأسمالي الذي كان المشيّد لحضارة غربية في أميركا، كندا، أستراليا، وأميركا الجنوبية، وكاد أن يكون مصير القارّة الأفريقية، لولا تقديرات غربية استبدلت ذلك بمشروع أطلقت عليه فكريا ما بعد الاستعمار (Postcolonial) واقتصاديا الاستعمار الجديد (Neocolonial) أو، بلغة سمير أمين ومدرسة التّبعية "المركز (الغرب) والمحيط (بقية العالم).
الحياة، في عرف الغرب، أن توجد بمواصفات الغرب، وأن تكون حياتك وسلوكاتك بالمواصفات نفسها
كنا، منذ فترة، نُعجب بعبارات "قراءة جديدة" (Revisited) التي كانت تصدر بها الكتب والموسوعات، تعبيرا عن إعادة النظر فيها، وتجديد معلوماتها بناءً على التطور والتراكم الفكريين، بل وكنا نُعجب، أيضا، بعبارة أخرى تحمل عمق المراجعة للفكر وإعادة النظر فيه تصحيحا لما قد يكون وقع فيه من أخطاء، وهي كلمة "مراجعة جديدة" (Rethinking) لنكتشف، بعدها، بأنّ معاني تلك الكلمات هي، في الفكر الغربي، ترجمة لما تطوّر في العقل الغربي في الحقل البحوث الأكاديمية، ذلك أن الغرب يرى نفسه، فقط، هو مركز العالم والمنتج للتراكم المعرفي إلى درجة أن الإسهامات الفكرية القادمة من العالم الآخر أضيف إليها عبارة "Non Western"، تمييزا لها عن الإسهام العلمي والأكاديمي الغربي الذي لا يضاهى، ولا يمكن الاستعاضة عنه بغيره، مما كان قدر ذلك الإسهام ومناقضته الفكر الغربي.
أبعد من هذا، كل النظريات العلمية، في الميادين الأكاديمية، أضحت لا تصدُر بدون أن تكون هناك وجهات نظر للمنظور النسوي (Feminist)، منظور نظرية النوع (Gender) أو المثلية (LGBTQ) معتبرة أن ما يمر به الغرب من تطورات فكرية هي مواصفات التطوّر التي لا يمكن إلا أن تكون نسقا موحدا لكل المجتمعات، وإلا فهو تمييز، كراهية أو، بالنسبة لنا، في دائرتنا الحضارية المعرفية، إرهابا وانتقاصا لحقوق الإنسان.
ثمّة عبارة أخرى أضحت، أيضا، تصدُر بها الموسوعات والكتب العلمية المعتبرة، خصوصا في بريطانيا وأميركا، وهي عبارة (Making) عندما يتعلق الأمر بالحديث عن الشّرق الأوسط، جنوب شرق آسيا أو العالم خارج دائرة الغرب، بمعنى أن تلك المناطق صنعها الغرب بشكلها الحديث، دولا كانت، اقتصادا أو حضارات شرقية، لتكون هذه العبارة تطوّرا لعبارة الاكتشافات الجغرافية، حيث اكتشف الغرب هذه المناطق ثمّ صدّر لها الحضارة أو ساهم في وجودها من العدم، باعتبار أنّ الحياة، في عرف الغرب، أن توجد بمواصفات الغرب، وأن تكون حياتك وسلوكاتك بالمواصفات نفسها، وإلا أنت خارج العالم، تعيش على هامشه، ولعل الأنموذج، على سبيل المثال، الكتاب الصادر في العام 2020 بعنوان (Allenby: Making the Modern Middle East)، وهو واضح، بعباراته، حيث إنّ المعنى، بالحرف، هو صنع أو إيجاد لمنطقة كانت تحمل مسمّى "الشام"، قبل قدوم الاستعمار لتحمل منطقة الشرق الأوسط، بعد اتفاقية سايكس بيكو للعام 1916، بل ثمة خلاف جيوسياسي، أوروبي وأميركي، حول النطاق الجغرافي للمنطقة، حمل المشروع الأوروبي اسم "الشرق الأوسط" بجغرافية البلدان العربية المشرقية، في حين أن أميركا تنظر إلى المنطقة في نطاق جغرافي أوسع، أطلقت عليه مسمّى "MENA" أي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تشمل المنطقة الواقعة من طنجة، غربا، إلى أفغانستان، شرقا.
نمتلك، الآن، شرعية طرح منظورات علمية، معرفية، ومفاهيم تعيد النظر في كل التراكم المعرفي
ذلك الغرب الذي كنّا نتشارك معه المفاهيم والتصورات الأكاديمية والذي أصبح، الآن، مع عملية طوفان الأقصى محل شك في سرديات لكل المعرفة التي كان قد صدرها لنا، باعتبار أن كل شيء محل إعادة نظر مع التّطور، وبما أن الصراع الواقع، منذ 7 أكتوبر، أبان عن تلك التطورات الفكرية فإننا نمتلك، الآن، شرعية طرح منظورات علمية، معرفية، ومفاهيم تعيد النظر في كل التراكم المعرفي الذي نفهم به الصراع، قيم الإنسانية، جرائم الحرب، مفاهيم العدوان والإرهاب، إضافة إلى القانون الدولي الإنساني، بل ونفهم به القوة، الدّفاع عن النفس، التفاوض، الهدنة، مسافة صفر والأسلحة، بكلّ أنواعها.
كلُّ تلك المنظورات، الآن، هي محلّ شك، والثابت، فقط، ما نعتقده، نحن، من قيمة الإنسان ممها كانت ديانته، نحترمه ونعيش معه في سلام، نكون فيه نحن الأقوى، حتى لا يستذلّنا أو يظنّ فينا ضعفا، دليل ذلك الحالة التّي ظهر بها أسراهم عند المقاومة الفلسطينية، عند تبادلهم، الأسرى، شبابنا، عندهم، هرم، بسبب ظلم الاعتقال وسنوات السجــن، ومن أُسر منهم عاد كما كان، عندما تمّ أسره في صحة وعافية مع متلازمة، أضحت تحمل اسم متلازمة غزّة، من حسن التعامل والإنسانية، وليس متلازمة استوكهولم، كما اعتدنا دراستها والحديث عنها، في عرف الأكاديميين.
قالها بعض من محلّليهم وآخرون من مثقفيهم، الإنسان لا يساوي الإنسان، بما أن ثمّة صراعا حضاريا، بل قالوا عنا إننا وحوش بشرية، لا نستحقّ أن نبقى أحياء، وحتى مستشفياتنا أضحت مقار قيادة عسكرية لتهاجم بدون تمييز ولا حرمة للأطباء، المرضى والمكان، بل قالوا، أيضا، إن ما يجري دفاعا عن النفس، في حين أن عنف المحتَل (بفتح التاء) جريمة حرب وإرهاب، كما أضافوا أن الإبادة البشرية والتطهير العرقي هما بمبرّر أن هؤلاء الحيوانات البشرية دروع بشرية أو إرهابيون محتملون، وهذا، كله، ليس من اختراع مخيلاتنا، بل سمعناه منهم، فلماذا لا نشكك في كل ما تقدم منهم وصدّروه لنا، ما كان يجمل اسم معرفة.
موت النظام الرسمي العربي بأفول الدولة الوطنية لم يكن وليد اللحظة
أفول مفهوم الدّولة العربية
تطرح عملية طوفان الأقصى إشكاليات عديدة على مستوى البراديغمات (النماذج) الموروثة عن الدولة العربية، حيث إنها تضع على المحكّ وجود تلك الدولة التي لم تعد قادرة على التكفل بالمواطن، لم تعد تستجيب لمقتضيات العقد الاجتماعي، كما أضحت، بفعل ما يجري حاليا في قطاع غزّة، غير موجودة فعلا، ذلك أن النظام الرسمي العربي الذي وضع ميثاق جامعة الدول العربية وميثاق الدفاع المشترك لم يكن ليستطيع فعل 1% مما فعلته كتائب الشهيد عز الدين القسّام أو سرايا القدس، بقهرهما أقوى جيش في المنطقة وإعادة إحياء القضية الفلسطينية، وكأنّنا غداة إعلان الأمم المتّحدة قرارها بتقسيم فلسطين، في 1947.
على هذا، هل يمكن التّساؤل، فعلا، عن أفول الدّولة العربية، وكيف يمكن التّعامل، من الآن فصاعدا، مع هذه الظاهرة التي سمعنا بعضهم يتحدّث، من جرائها، عن مخاوف أميركية من عودة ما بات، في العرف السّياسي، يُسمّى الرّبيع العربي، خصوصا بعد الموقف المخزي الذي أظهرته المواقف، سواء الرّسمية (قمّة الرياض العربية الإسلامية) أو عدم القدرة، حتّى، على تمرير المساعدات إلى غزّة، من معبر رفح "المصري"، لا، بل نقل المصابين، للعلاج، خارج القطاع الجريح؟
ننطلق من البداية، من صفقة القرن، والتي أعقبت الثورات المضادّة، للقول إن موت النظام الرسمي العربي بأفول الدولة الوطنية لم يكن وليد اللحظة، بتضافر الظاهرتين المذكورتيْن، بل بالأداء المتدهور، فترة بعد فترة، للدولة بقصورها عن خدمة المواطن وتردّيها في الفساد والديكتاتورية. ظنّ النظام الرسمي العربي، بدوله الوطنية، أن الظاهرتين عاقبتا، بما فيه الكفاية، المواطن الذّي حاول، قدر الإمكان، استرداد شيءٍ من حقوقه المسجّلة في العقد الاجتماعي بالعمل السّياسي المضني الذّي انتهى إلى التّفكير في إيقاد شعلة الثّورات، لعلّها تكون القائدة إلى إصلاح متوافق بين النخبة الحاكمة والشُّعوب، إلا أن تلك الفرصة فشلت وأعقبتها الثّورات المضادّة، لتكون نوعا من العقاب على مجرّد التّفكير في طاولة مفاوضات لإعادة تحرير العقد الاجتماعي، وتسجيل الاعتراض على الفساد، الحكم غير الراشد، التّسيير غير الكفء للسّياسات العامّة، وصولا إلى إقرار شعار "دولة بلا مواطن لمواطن يحتاج إلى دولة".
كتائب القسام وبقية الفصائل الفلسطينية أبلت البلاء الحسن أمام جيش نظامي مدجّج بالسّلاح وبتأييد غربي لا مثيل له
أدّى هذا الموقف إلى تراكم المشكلات، وبقصد إكمال دائرة العقاب، سعى النّظام الرّسمي العربي إلى تسجيل موقف طبيعة الدّولة التّي ترفض التّغيير، من ناحية، وجلب التأييد لذلك، من الغرب، لصالح إدامة الوجود الصُّهيوني، من ناحية أخرى، من خلال القبول بصفقة القرن التّي كادت أن توقع على شهادة وفاة القضية الفلسطينية، لولا يقظة المقاومة، لكن ذلك كله جاء ليُعلن، أيضا، عن ميلاد موقف جديد لم يشهد له التّاريخ مثالا منذ ميلاد الدّولة الوطنية فاعلا رئيسا ووحيدا في السّاحة الدُّولية، عبر معاهدة وستفاليا، في 1648، وهو الموقف الذي نسجل معه ميلاد "براديغم" أفول الدولة الوطنية، وطرح الحاجة الملحّة، في العالم العربي، لوجود تلك الدّولة وطبيعة العقد الاجتماعي الجديد مع غياب الطّرف الآخر، الضّامن للأمن والمنظّم لحركيّة المجتمع، أي الدّولة، في مفهوم العلوم السّياسية والدّراسات الأكاديمية، بشأن ظاهرة الدّولة.
بطبيعة الحال، نحن أمام موقفٍ يحتاج إلى التّعمُّق في الدّراسة، ذلك أنّ كتائب القسام وبقية الفصائل الفلسطينية أبلت البلاء الحسن أمام جيش نظامي مدجّج بالسّلاح وبتأييد غربي لا مثيل له، إضافة إلى تحميل ذلك الجيش خسائر لم يتكبّدها أمام الجيوش العربية في حروب 1948، 1956، 1967 و1973 بلغت، وفق التّعبير الرسمي الصُّهيوني، مئات من القتلى والجرحى، من دون إغفال إعطاب الآليات وإبراز تكتيكات قتالية وكفاءة أداء حربي يفوق ما يمكن أن تبرزه جيوش نظامية، ما يطرح سؤالا محوريا: ماذا بعد غزّة بالنّسبة للدّولة الوطنية؟ كيف يمكن التعامل مع ظاهرة تغير طبيعة الدولة وتصاعد الهامش (الفواعل غير الرّسمية) في العالم العربي الذّي قد يشهد أحداثا تكون مواقف الولايات المتحدة، في تقديرات وتقييمات جديدة، سجّلتها، وتريد أن تتوقف الحرب، حتى لا يتفاقم الأمر، لأنّ الضحيّة الأولى الرئيسة، بامتياز، هي سقوط صفقة القرن، بعمل المقاومة التّي أظهرت أنّ ثمّة قدرة وإرادة على الوقوف، من دون تسجيل شهادة وفاة القضية الفلسطينية وما بعدها، من تداعيات، إطلاق إشارات بضعف الأطراف الرّسمية (الدّولة الوطنية) التّي استند إليها الغرب في تحويل مشروع الدولة الصهيونية إلى حقيقة واقعية، من دون التفكير في الموقف الذّي أدّى إليه وقوفه (الغرب) مع الدولة الوطنية في العالم العربي وإضعافها لتكون طرفا سهلا للانقياد في الصفقة، بعيدا عن أي اعتبار لإشكالية وقود الثورة التي لا تنطفئ، ودرجة الوعي الذي بلغته الشعوب لتسجل رفضها المواقف كلها (الثورات المضادّة والصفقة).
نحن أمام لحظة فارقة طرحتها عملية طوفان الأقصى، بل نداء وصرخة يجب أن ننتبه إلى تداعياتها
الإشكالية أكبر من العلوم السياسية، لأن ما نحتاجه، الآن، هو العكوف على استنتاج الدروس من "طوفان الأقصى" وتداعياته على كل "البراديغمات" التي اعتدنا على سماعها وفهمها، بالمفهوم الغربي، حيث إنه، بعد سقوط مصطلحات حقوق الإنسان، حقّ استخدام العنف بالنسبة للطرف المحتل (بفتح التاء) في القانون الدولي، إعمال اتفاقات جنيف بشأن الحرب، معاني الإنسانية، وغيرها من مفاهيم كثيرة، فنحن أمام موقف محرج للغاية، براديغميا وأكاديميا، سنكون معه مضطرين إلى التخلي عن المراجع الغربية والقواميس والكتب المرجعية في العلوم السياسية والعلاقات الدولية وطرح مشروع يكون منطلقه إنقاذ الدولة الوطنية، على كل الأصعدة، ذلك أنه، حتى مع الشعلة الثورية، لا مجال لفراغٍ قد يكون من ورائه فوضى تفوق، بعشرات المرّات، ما شهدناه في أثناء تراجع السلطة وانكفائها، أياما فقط، أيام ثورات الربيع العربي، في عديد البلدان، ثم استتباع ذلك المشروع بالانكفاء على مراجعة ما تم تصديره إلينا من مفاهيم وإشكالات في العلوم الإنسانية، لعله يكون استكمالا لمشروعي أنور الجندي والمسيري، رحمهام الله، اللذين عملا، على التوالي، على إبراز أخطاء المنهج الغربي الوافد والانحياز المعرفي في العلوم الإنسانية.
لسنا، هنا، أمام مهمة مراجعة، تجديد أو إعادة كتابة للمشروع السياسي، بل نحن أمام لحظة فارقة طرحتها عملية طوفان الأقصى، بل نداء وصرخة يجب أن ننتبه إلى تداعياتها، على المدى القصير، وهي، حتما، تكون من دعت الرئيس الأميركي، بايدن، إلى إطلاق تلك التصريحات التي كانت من أهمها عبارة "مستقبل الشعب اليهودي على المحكّ"، حيث تشير تلك العبارة إلى الظاهرتين: أفول الدولة الوطنية في العالم العربي، وسقوط نهائي بصفقة القرن، وهما نقطة تعرف كل من الصين وروسيا أنهما إشارتان إلى أفول أميركا، نفسها، والغرب معها، على المدى المتوسّط.
قد تكون هذه صرخة معرفية لكنها، حقيقة، صرخة وجودية، لها ما بعدها، تدعونا إلى التفكير، بل التعمّق في التفكير، بعيدا، ذلك أن تداعيات حدوث ظاهرة أفول الدّولة الوطنية وجودية على صانع القرار والشعوب، كليهما، الانتباه لها وإصلاح ما يمكن إصلاحه والدعوة إلى تضافر جهود الباحثين أشد، والأكبر في الإشارة إلى تلك التّداعيات ومحاولة رأب صدعها من خلال عمل بحثي وأكاديمي يكون في مستوى اللّحظة الفارقة، لحظة ننتظرها بكلّ شغـف، ولكن بكلّ حذر، أيضا.