طوفان الأقصى وطوفان التطبيع
من أهم مكاسب "طوفان الأقصى" أنّه أوقف طوفان الظهور الصهيوني المكثّف على الشاشة العربية الأشهر، قناة الجزيرة، بعد أن كانت وجوه المعلّقين الصهاينة تصفع وجوه المشاهد العربي، والحجّة "الرأي والرأي الآخر"، أو "لكي تكتمل جوانب الصورة".
خمسة أشهر من العدوان الهمجي تقابله بسالة الصمود الفلسطيني في غزّة من دون استضافة الصوت الصهيوني الفاشي على الشاشة. لم تختلّ الصورة، ولم تتأثر التغطية، ولم تُصب المهنية في مقتل كما كانوا يبررّون دائماً استحضار الصهاينة عبر الأثير لكي يلقوا بكناسة روايتهم الكذوب في وجوهنا، فهل شعر المشاهد العربي بأيّ نقصانٍ في الخدمة الإخبارية المقدّمة له؟
لم يخسر المشاهد شيئاً، فيما كسبت الشاشة تحرّراً من الوجود الصهيوني الوقح، والذي هو يبقى من أشكال التطبيع، مع خالص الاحترام لحرّاس معبد المهنية والحرفية والموضوعيّة الإعلامية، لتمتدّ أفضال غزّة وطوفانها من أجل الأقصى لتحرّر شاشةً يتابعها مئات الملايين من أسر التطبيع.
صحيحٌ أنّ الاعتبارات المهنية تفرض النقل المباشر لمؤتمرات صحافية لمسؤولي الاحتلال العسكريين والسياسيين، وتجعل البثّ المباشر لأحداث حيّة من الداخل، غير أنّ هذا أمر يختلف تماماً عن دعوة معلّقين صهاينة واستقبالهم ضيوفاً طبيعيين عبر الأثير على شاشة عربية، والأخير يبقى فعل تطبيع مقصوداً مهما قيل في تبريره.
وليس بعيداً عن ذلك، كذلك، سفر الإعلامي العربي المشتغل في فضائية عربية إلى الأراضي المحتلة، والقدس تحديداً، بحجة التغطية والصلاة في المسجد الأقصى أو زيارة المقدّسات المسيحية، في ظلّ وجود ما يكفي من الإعلاميين المتمرّسين من عرب القدس وفلسطين، والذين بات المشاهد العربي يحفظ أسماءهم ووجوههم ويشهد لهم بالتفوّق المهني والموقف الوطني والقومي المحترم، بما يجعل كلّ واحدٍ منهم مؤسّسة إعلامية بذاته.
والحال كذلك، ثمّة سؤالٌ بريء يفرض نفسه في هذه اللحظة: ما هي الضرورة أو الإضافة المهنية التي ستحقّقها زيارة الزميلة مذيعة الجزيرة، خديجة بن قنّة، القدس المحتلة والصلاة في المسجد الأقصى، وسط حفاوة متحدّث جيش الاحتلال بذلك، واعتباره دليلًا على تسامح إسرائيلي؟ ما الذي تقدّمه بن قنّة ولا تقدر عليه كتبية من المراسلين والمراسلات الأكفاء من أشقائنا في الأرض المحتلة، نجوان سمري وجيفارا البديري وإلياس كرّام، وحتى فاطمة الخميسي وحسان مسعود من الوجوه الأحدث؟
الشاهد أنّ زيارات السياسيين والإعلاميين العرب، وحتى السائحين العاديين التي ترفع لافتة الصلاة في الأقصى والتضامن مع المرابطين هناك، كانت ولا تزال تثير غضب المواطنين المقدسيين من أهل الرباط، الذين عبّروا غير مرّةٍ عن رفضهم مثل هذه الزيارات التي تتطلّب إذن سلطات الاحتلال والتنسيق معها، بما يجعلها تطبيعاً مع واقع كريه مفروض بقوة السلاح، وفي ذلك تحتفظ الذاكرة بعشراتٍ من مشاهد الرفض الشعبي الفلسطيني للزائرين العرب، الرسميين وغير الرسميين، منذ واقعة وزير الخارجية المصري الراحل، أحمد ماهر، في تسعينيات القرن الماضي، وحتى زيارة أول وفدٍ رسميٍّ بحريني إلى الكيان الصهيوني في العام 2020، حين صرّح رئيسه للإعلام الصهيوني بضرورة التصدّي لمن سماهم "المتطرّفين الفلسطينيين" الذين يحولون بين وفود التطبيع العربية والمسجد الأقصى، ما يضطرّ المطبّعين إلى الدخول سرّاً في حماية جنود الاحتلال لحمايتهم من ردّة فعل الفلسطينيين الذين يهاجمونهم.
صحيحٌ أنّ معطيات اللحظة الراهنة تقول إنّ التطبيع على أشدّه بين الرسميين العرب والاحتلال، وإنّ الواقع على الأرض يشي بانهيارٍ شاملٍ أمام غطرسة القوة الصهيونية الأميركية، بما اختزال قضية الإنسان الفلسطيني في لقمة الخبز وحبّة الدواء وشربة الماء، لكن ذلك كلّه لا يعني أنّ المفاهيم قد تحلّلت، وأنّ الثوابت والمبادئ قد سقطت، ذلك أنّ تعريف التطبيع يبقى ثابتاً، لا يتغيّر ما بقي الشقيقُ شقيقاً والعدو عدوًاً.
من هنا، تظلّ زيارة القدس، بتأشيرة من العدو الصهيوني، في أي وقتٍ، تطبيعاً صريحاً... وفي هذه الظروف الحالية تحديداً تصبح الخطيئة مضاعفة.