عاجزون أم ندّعي العجز؟
تبدأ مقاربة النظام الرسمي العربي من المأساة الفلسطينية وتنتهي من نقطة أنهم لا قِبل لهم ببطش العدوان الصهيوني، وأن أقصى ما يمكن أن يقوموا به هو النحيب بين يدي المجتمع الدولي من أجل الضغط على الاحتلال، لكي يسمح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزّة.
تحويل القضية إلى مسألة إنسانية، عوضًا عن التركيز على أنها قضية مقاومة مشروعة من أجل التحرّر الوطني، لا يضعف فقط الموقف الفلسطيني، وإنما يجعل الجهد العربي كله أقرب إلى عملية تسوّل مواقف دولية مستحيلة، بالنظر إلى أن القوى الفاعلة على الساحة الدولية قد حسمت خياراتها منذ البداية، وبدت أكثر عداءً لحقوق الشعب الفلسطيني من الاحتلال الإسرائيلي نفسه.
هل حقًا العرب عاجزون وعاطلون إلا من تسوّل مواقف دولية تساوي، في أكثر الحالات تفاؤلًا، بين دم المواطن الفلسطيني، صاحب الأرض الأصيل، ودم المستعمر الصهيوني المدجّج بالسلاح؟
من أسف أن العرب ليسوا عجزة، كما أن لم يعدموا القدرة على تغيير المعادلة وردع الاحتلال، لكنهم عدموا الإرادة والرغبة في أن يسلكوا بوصفهم أصحاب القضية، مثلهم مثل الفلسطينيين، مكتفين بأدوار الوساطة والسمسرة والتربّح من نزيف الدم.
قلت سابقًا إن الأنظمة العربية تدّعي العجز لكي تتسوّل به رضا دوليًا لن يأتي، وتوهم شعوبها بأن معاداة العدو انتحار، وأن رفض التطبيع معه والرضوخ له جنونٌ وتهوّر، ثم تخترع لهم عدوًا بديلًا، في الداخل، تكرّس لمحاربته كل الطاقات، وتُنفق بسخاء على تجييش الشعب ضد الشعب، فتنقسم الأوطان طولًا وعرضًا، وتنشطر المجتمعات وتتشظّى، لكي يكون المناخ مناسبًا حتى يخرج بنيامين نتنياهو معلنًا بمنتهى الثقة والوقاحة: "أقول بوضوح لأفضل أصدقائنا أورشليم الكاملة هي عاصمة "إسرائيل" الأبدية وسنواصل البناء فيها، في كل أحيائها، مثلما يبني كل شعب في عاصمته ويعمرها. هذا حق طبيعي في دولة ذات سيادة ولن نتخلى عنه وسنواصل ممارسته".
ما قاله مجرم الحرب إبّان الاعتداءات على المسجد الأقصى بات التزامًا لدى معظم الأنظمة العربية التي لا تخجل وهي تساوي بين الاحتلال وأصحاب الأرض، وتدين عمليات المقاومة البطولية وتصنفها إرهابًا وتبكي على قتلى العدو بالكم نفسه من الدموع التي تذرفها على شهدائنا من الشعب الفلسطيني، لو كان في عيونها دمع وفي وجهها دم من الأساس.
وأنت تتابع التصعيد الوحشي في المجازر الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني لا تنس أن كل الدول العربية المرتبطة بعلاقات تطبيع محرّمة ومجرّمة مع العدو لم تفكّر في سحب سفرائها لدي الكيان الصهيوني، وأن أيًا من هؤلاء السفراء لم يستشعر حرجًا أو إحساسًا بالكرامة والنخوة، ويطلب من حكومته إعفاءه من العار.
لا تنسى أيضًا أن واشنطن التي تخوض الحرب ضد الفلسطينيين بكراهية وتعصّب وحقد أكثر من الاحتلال الصهيوني ترسل جنودها وأسلحتها عن طريق قيادتها الوسطى المركزية في الشرق الأوسط، ولا تسقط من حسابك أن هناك ثمانية جيوش عربية زميلة وشريكة لجيش الاحتلال الصهيوني في حلفٍ عسكريٍّ واحد تحت مظلّة هذه القيادة الوسطى الأميركية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا.. وبالتبعية، هذه الجيوش الثمانية حال التدخل الأميركي المباشر إن لم تكن شريكة في العدوان على الفلسطينيين فإنها، بالحد الأدنى، لا تقوى على معارضته أو إدانته.
الشاهد أنه لو كان هؤلاء مع فلسطين حقًا لخرجوا من هذه المسافحة العسكرية مع العدو، ولقرّروا سحب سفرائهم من الكيان، وأوقفوا علاقات التطبيع القائمة فورًا، وأعلنوا إلغاء، وليس تعليق أو تجميد، كل مشاريع التطبيع المستقبلية.
يستطيع العرب، إن كانوا صادقين، أن يتذكّروا شيئًا اسمُه اتفاقية الدفاع العربي المشترك، عمرها أكثر من 73 عامًا محنّطة في حديقة الديناصورات المسمّاة جامعة الدول العربية، والتي تنص على أنه: تعتبر الدول المتعاقدة كل اعتداء مسلح يقع على أي دولة أو أكثر منها أو على قوّاتها اعتداءً عليها جميعاً. ولذلك فإنها، عملًا بحق الدفاع الشرعي، الفردي والجماعي، عن كيانها تلتزم بأن تبادر إلى معونة الدولة أو الدول المُعتدى عليها، وبأن تتّخذ على الفور، منفردةً أو مجتمعةً، جميع التدابير، وتستخدم جميع ما لديها من وسائل، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة لرد الاعتداء ولإعادة الأمن والسلام إلى نصابها. ويخطر على الفور مجلس الجامعة العربية ومجلس الأمن بوقوع الاعتداء وما اتخذ في صدره من تدابير وإجراءات. وتتعاون الدول المتعاقدة فيما بينها لدعم مقوماتها العسكرية وتعزيزها وتؤلف لجنة عسكرية دائمة من ممثلي هيئة أركان حرب جيوش الدول المتعاقدة لتنظيم خطط الدفاع المشترك وتهيئة وسائله وأساليبه".
لو كانوا صادقين في محبّة فلسطين ودعم مقاومتها لما شنّوا حملات دهم واعتقال للشبان المتظاهرين في الشوارع والميادين دعمًا للمقاومة، كما جرى في القاهرة التي اعتقلت عشرات من الغاضبين الذين عبّروا عن تضامنهم مع الشعب المقاوم بتهمة الوصول إلى ميدان التحرير الذي صار محرّمًا على المطالبين بالحرية.
باختصار، لا يجمع بين محبّة فلسطين وصداقة الاحتلال الصهيوني إلا صفيقٌ أو كاذب.