عاجل: إعدام سيد قطب

11 يناير 2022

سيد قطب .. مثقف غاضب، ليس عاقلاً بقدر ما هو مخلص

+ الخط -

ماذا لو كانت "السوشال ميديا" موجودة منتصف الستينيات؟ كيف كان "فيسبوك" سيبدو بعد الإعلان عن إعدام سيد قطب بساعة؟ تعالوا نلعب هذه اللعبة "المرعبة"... مات سيد قطب، دعوات، وتحيات، وطيبات، ورحمات، وأدعية على الظالمين في جانب، وعلى الجانب نفسه، من حسابات معارضين آخرين للنظام، نقرأ الآتي: "مات الرجل الذي وصف الانقلاب العسكري بالثورة"... "مات من طالب العساكر بعدم الانسحاب إلى ثكناتهم"، "مات من طالب بالحكم الديكتاتوري، وبشّر به، وسمّاه ديكتاتورية نظيفة شريفة عادلة"، "مات من طالب بإعدام عمّال كفر الدوّار، لمطالبتهم بحقوقهم المشروعة، وطالب الدولة بالضرب بقوة، ووصف المظلومين بالشياطين، ووصف القتلة بالأطهار، وزعم أنّ عسكر يوليو امتداد طبيعي لأحمد عرابي وجمال الدين الأفغاني". "مات نصير الطغاة والمستبدّين، وعند الله تجتمع الخصوم"! كتب سيد قطب ذلك كله، وزيادة. في الفترة من منتصف 1952 إلى أوائل 1953، يقول صاحب "مهمة الشاعر في الحياة":
"إنّ عهداً عفناً بأكمله يلفظ أنفاسه الأخيرة في قبضة طاهرة، ولكنّها قويّة مكينة فلا بأس أن يرفس برجليه، ولكنّه عهدٌ انتهى، عهد قد مات، ولكن المهم هو أن نشرع في الإجهاز عليه، وأن تكون المدية حامية فلا يطول الصراع، ولا تطول السكرات، لقد أطلع الشيطان قرنيه في كفر الدوّار، فلنضرب بقوّة، ولنضرب بسرعة، وليس على الشعب سوى أن يرقبنا ونحن نحفر القبر ونهيل التراب" (حركات لا تخيفنا، الأخبار، 15 أغسطس 1952). "أن نظلم عشرة أو عشرين من المتهمين خيرٌ من أن ندع الثورة كلّها تذبل وتموت". (مجلة روز اليوسف، سبتمبر 1952). "إن ثورة 23 يوليو سنة 1952 ليست سوى الامتداد الطبيعي المباشر لثورة 9 سبتمبر سنة 1881، كلتاهما ثورة قام بها الجيش باسم الشعب، وكلتاهما ترميان إلى تحطيم الأرستقراطية وإعلان حقوق الشعب. لا.. بل إنّ جذور ثورة 9 سبتمبر لترجع إلى ما هو أبعد، ترجع إلى اليوم الذي وقف فيه جمال الدين الأفغاني قبيل خلع الخديوي إسماعيل يخطب في الإسكندرية في الجماهير يقول: أنت أيها الفلاح المسكين تشق قلب الأرض لتستنبت منها ما تسد به الرمق، وتقوم بأود العيال، فلماذا لا تشقّ قلب ظالمك؟ لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون ثمرة أتعابك؟... هنا كانت قد وضعت بذرة الثورة، الثورة على الإقطاع .. الثورة على الأرستقراطية، الثورة باسم الفلاحين ومن أجل الفلاحين" (سيد قطب، أكتوبر 1952، "روزاليوسف").. "لا بد من استبعاد الجماهير من معادلة العمل السياسي، فمن مصلحة الجميع أن يظل الزمام في أيدي قوّة نظاميّة طاهرة نظيفة كأبطال ثورتنا المجيدة، ومن مصلحة الحمقى ألّا يقفوا في طرق هذه القوة النظاميّة فهي أقوى ممّا يظنون، وهي ستسحقهم سحقاً .. إنّ طريقة القوة المنظمة أسلم من طريقة الجماهير". (سيد قطب، 9 فبراير 1953، "روز اليوسف").
لا تكفي مساحة المقال للاستطراد في الاستشهادات التي تدين صاحب "الظلال" رحمه الله، والتي كتبها في نشوة إحساسه بانتصار جيله، واقترابه من أحلام المثقف الرومانسي بالاستقلال، وحكم أبناء الفلاحين لأنفسهم وبلادهم. لا أبرّئ سيد قطب من أخطائه ولا أختزله فيها، إنّما أقرأه في سياقه وتاريخه، وأضع أخطاءه وخطاياه في حجمها الطبيعي، فأجده مثقفاً غاضباً، ليس عاقلاً بقدر ما هو مخلص، ضلّ طريقه إلى لعبة السلطة، وما كان له أن يفعل، فهي خطرة قذرة لا ينبغي أن يتورّط فيها إلّا من يدرك أبعادها. الأمر نفسه ينطبق على كثيرين، هنا والآن، في معسكري السلطة والثورة على السواء (كاتب السطور أولهم). مثقفون ونشطاء وكُتاب وإعلاميون (بل وسياسيون!) لا نبرّئهم من أخطائهم، ولا نختصرهم فيها. ونسمح لأنفسنا، بعد إذن ورثة المظلومية والكراهية إلى ما لا نهاية، أن ننظر إليهم بعين النقد تارّة، والرحمة أخرى، وهو ما يحتفظ للأفراد بإنسانيتهم، وللمجتمعات بقدرتها على التجاوز والمواصلة. جمهورية الرعب لا تصنعها سياسات الاستبداد وحدها، إنّما حماقاتنا أيضاً، مع الأسف.