عاد الجنود ... ماذا عن عملية نعمة الباقر؟
الحمد لله، عاد الجنود والضبّاط المصريون الذين كانوا مخطوفين في السودان، أو عادت دفعة منهم والبقية في الطريق. المهم أنّ كابوسًا انزاح بالإعلان رسميًا عن استعادة الذين كانوا في حوزة مليشيا الدعم السريع، في مساحةٍ ضبابيةٍ من التوصيفات، رهائن أم أسرى. لا يهم، المهم أنهم عادوا، وأنّ عشرات الأسر في عشرات القرى والمدن سيحتفلون بالعيد مع أولادهم، ويشاركهم الفرحة ملايين المصريين.
جيّد أن يرتاح أصنام الجيش والشرطة على ذراع اليد الباطشة التي امتدّت فارغة إلا من الرجاء إلى الإمارات، وعادت بخبر عودة العسكريين. وجيّد كذلك أن يهدأ أولئك الذين خلطوا، كالعادة، بين العساكر الغلابة وجنرال الحكم، فوجدوها "فرصةً ثوريةً عظيمة" للانتقام من النظام وتعريته والشماتة فيه والسخرية منه، ومن الموقف، وهي الشماتة التي تحوّلت، في بعض الأحيان، على نحو مؤسِف، مما لا تجوز الشماتة فيه.
وبما أنّ العسكريين عادوا، والنظام اطمأن ويشعر بلذّة المنتصر في العملية التي لا يعرِف أحد كيف ومتى بدأت وانتهت، ويستعيد دفء البيانات المشتركة مع دولة الإمارات، الحاضرة منذ وقت مبكّر بدعمها السريع واللانهائي مليشيا قاطع الطريق السابق، من التسليح على الأرض إلى التغريد فوق فضاء تويتر، فإنه لا يعدّ خروجًا على ناموس الوطنية، أن نتساءل مع المتسائلين عن عمليةٍ أخرى نفّذها النظام بالتزامن مع عملية استعادة الجنود والضباط.
من المهم، بل من الواجب أن نسأل عن "عملية نعمة"، زوجة المحامي الأسير في زنازين أهل السلطة محمد الباقر، التي زارت زوَجها في السجن، فروّعتها حالته الصحية التي بدا عليها نتيجة أعمال تأديب وإصلاح على أيدي سلطات السجن، فأقدمت السيدة القلقة على أحوالِ زوجها على بثّ أحزانها والتعبير عن مخاوفها عبر "فيسبوك" و"تويتر".
نريد أن نعرف من البواسل الباطشين أصحاب اليد الطولى ظروف (وملابسات) اختطاف المهندسة، نعمة هشام، من بيتها عند الفجر إلى مكانٍ مجهول، ثمّ ظهورها بعد عدّة ساعات، تخلّلتها عملية إزالة تغريدات الألم والغضب وإخفائها، واستبدال تغريدات جديدة مختلفة بها.
اعتقال زوجة شابة من منزلها واقتيادها إلى المجهول، واشتراط مسح التغريدات التي تتحدّث فيها عن حالة زوجها، وعشرات السجناء، لكي تستعيد حريتها وتعود إلى بيتها، كذلك كله: هل يختلف كثيرًا عن عملية خطف العسكريين بواسطة جنجويد الدعم السريع والمساومة بهم، سياسيًا وعسكريًا، ثم إطلاق سراحهم بوساطة الجهة الراعية للاختطاف؟
ربما كان الفرق الوحيد أنّ زوجة الباقر ليست عسكريةً مسلحة، ولم تكن في مهمةٍ تدريبيةٍ مع أيّة جهة، كما أنها ليست طامعةً في بسط نفوذها أو تفكّر في الوصول إلى السلطة بانقلاب، كما أنها ليست صاحبة مليشيا تتلقّى دعمًا من الإمارات أو إسرائيل ... هي فقط زوجة تبحث عن حرية زوجها وحقوقه كمحامي سجينٍ بلا تهمة حقيقية، وتشعر بالرعب عليه في ظلّ الأنباء الواردة من سجن بدر عن فظائع وأهوال يتعرّض لها السجناء.
ليست حالة المهندسة نعمة سوى واحدة من آلاف الحالات لعائلات سجناء ومعتقلين مختطفين كالرهائن والأسرى في زنازين مُعتمة، فإذا تكلموا عن معاناة ذويهم، أو احتجّوا على ممارسات غير آدمية ضدهم تعرّضوا للتنكيل والبطش بمنتهى القوة والجسارة، التي بحث الناس عنها في التعاطي مع أزمة العسكريين الرهائن في السودان.
لا أحد يريد أن يُفسد أفراح هؤلاء المدنيين الديمقراطيين للغاية، الواقفين في طوابير الوطنية السهلة، محتشدين خلف النظام في عملية استعادة العسكريين من قبضة مليشيا الدعم السريع، لكننا، فقط، نذكّر بأنّ كرامة الوطن في الخارج لا تنفصل عن كرامة المواطن في الداخل.
مهمٌّ أن يحتشد الكلّ في مواقف عصيبة مثل العربدة الإثيوبية في النيل أو إهانة العسكرية المصرية والكرامة الوطنية على يد زعيم مليشيا. وكما قلت سابقًا، لا أحد يمكن أن يكون ضد هذا النوع من الوطنية، منخفضة المخاطر والتكاليف، التي يفضّلها النظام، بل أنه لن يمانع لو زايدت عليه وانتقدته على تردّده في دخول المعركة، غير أنّ ثمّة معانٍ أخرى، أصدق وأنبل، للوطنية، لا يشترط لممارستها أن تتواطأ على سحق إنسانية المواطن، أو تسكت عن ظُلمه، وتكتفي بالفرجة وهو يتم اقتياده، مظلومًا، إلى حبل المشنقة، بينما أنت مشتعلٌ حماسةً لتأييد النظام وأنت تردّد "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، مع أنك تُدرك أنك جزءٌ من ديكورات عرضٍ مبتذل.