عبد الناصر على شاشة فؤاد المهندس
كنتُ، طوال الوقت، أتصوّر أن مشهد "معركة" محل الكشري في فيلم "صاحب الجلالة" (إنتاج 1963) أحد "أخبث" المشاهد الكوميدية في تاريخ السينما المصرية، سلطان متخيّل، هو مارينجوس الأول، لدولة متخيّلة، هي بورينجا، ينقلب على سلفه السلطان أبريم الخامس، ويحلّ محله، ثم يأتي في زيارة إلى مصر الناصرية التي تدعم أنظمة الاستقلال الوطني. يبدو مارينجوس هو جمال عبد الناصر نفسه، وحين يزور مصر يتربّص به رجال "العهد البائد" لاغتياله، فيلجأ إلى "ابن بلد" مصري "شيّال" يشبهه، حيث يشبه السلطان أبناء شعبه، ليحلّ محله، ويواجه أعداءه، ويهزمهم، وتكون الجائزة زواج العامل المصري، الأمي، من مضيفة السلطان سميرة أحمد، المصرية المتعلّمة، بشرط أن يتعلم القراءة والكتابة، أما الفروق الطبقية، فلا وزن لها!
يقف "ظلّ السلطان" الشعبي فريد شوقي بموكبه أمام "محلّ كشري"، ويفضله على حفل فخم في فندق خمس نجوم، ويدعو حاشيته إلى العشاء، ويشاهد أحد الزبائن يعتدي على طفلٍ صغير، فيتدخّل لإنقاذه، وتدور المعركة بينه وبين آخرين، وطبعا يهزمهم جميعا. نحن أمام مشهدٍ يرقص له "الرقيب" الناصري طربا، فهذا هو بطلنا، سلطاننا، وحش الشاشة، الذي ينتصر على كل من يفتري على "أبنائنا". هنا يظهر فؤاد المهندس، وبخبث، لا أظنّه عفويا، يمرّر "إفيها" عابرا للزمان (والرقيب)، ويقول: "إذن، سلطنة بورنجا تعلن الحرب على محلات الكشري". يتحرّك خير أجناد بورنجا لخوض معارك الزعيم الشخصية، ويجري اختزال عصرٍ بأكمله، في مشهدٍ كوميدي فاجر وقادر على "تغفيل" "أجعص" رقيب.
في كتابه "مهندس البهجة"، (دار المرايا، القاهرة، 2022) يتناول الكاتب والأكاديمي وليد الخشّاب تجربة فؤاد المهندس وفق منهج أقرب (وأنضج)، في القراءة والتحليل، والربط، من دون تعسّف، بين مشروع المهندس الفني والمشروع الناصري، ويجزم (ويدلّل عبر تحليلات رصينة) أن دراسة المهندس على نحو جادٍّ تكشف لنا الكثير عن تطوّرات المجتمع العربي الحديث فيما بعد الحرب العالمية الثانية. ويشير إلى بدايات المهندس في برنامج "ساعة لقلبك"، والذي بثّته الإذاعة المصرية بعد شهور من حركة الضباط الأحرار. ويربط، بذكاء، بين عنوان البرنامج وحديث النبي "ساعة وساعة … إلخ"، من ناحية، والمثل المصري الذي يدور في فلك الحديث، "ساعة لقلبك وساعة لربّك"، في إشارة إلى توجّهات ناصرية علمانية، لا تخلو من أخذ الدين في الاعتبار.
هل كان فؤاد المهندس ابنا فنيا لأستاذه نجيب الريحاني، وأبا لتلميذه عادل إمام؟ الاجابة الشائعة هي نعم، ثلاثتهم مدرسة واحدة، إلا أن الخشّاب يفكك أسطورة "النقاء العرقي" للكوميديا المصرية، ويرى أن مصدرها نزوعٌ وطنيٌّ إلى خلق "أنسابٍ فنية" عروبية، ويثبت أن كوميديا الريحاني، في أعلى مراحل نضجها، هي كوميديا الموقف، من دون مبالغاتٍ في التهريج، وقد بدأ المهندس منها، لكنه تجاوزَها، في عقد الستينيات، إلى كوميديا "الفارس". واعتمد المبالغة في التهريج، واستخدام ملامح الوجه، والجسد، والمؤخّرة، تماشيا مع "مزاج" مشاهدين جدُد، نزحوا من قراهم في الدلتا والصعيد إلى القاهرة والإسكندرية، ليعملوا في المصانع والشركات والمصالح الحكومية التي أسّستها الدولة الناصرية، واحتفظوا في ذاكرتهم بنماذج التسلية الريفية والملاعيب الشعبية والأراجوز، فاحتاج المهندس إلى خلطةٍ فكاهيةٍ تجمع بين الحداثة اللائقة بمدينةٍ ناصرية، وتقاليد الفرجة الشعبية (الريفية). وبقدر ابتعاد المهندس عن أداءات الريحاني يقترب ويتأثر بل وينقل عن الإنكليزي شارل شابلن، وكذلك كانت اختياراتُه الفنية، أغلبها اقتباساتٌ عن أعمالٍ إنكليزية، ما يعني أن التعبير الفني عن لحظة الاستقلال الوطني، في ذروتها الناصرية، اقترن، بالضرورة، بالترجمة الفنية عن المستعمر.
يجعل وليد الخشاب في كتابه "المختلف" الكتابة عن الفن، وبه، عملا تاريخيا أكاديميًا، لا يخلو من متعةٍ. يقرأ عبد الناصر على شاشة فؤاد المهندس، ويقرأ مشروع ناصر القومي التحديثي من خلال مشروع المهندس الفني في الإذاعة والمسرح والسينما والتلفزيون، ويرى في موضوعات المهندس "علمانيةً مرحة" تعيد تأويل الأيديولوجية الناصرية، في أعمالٍ، تبدو، ظاهريا، ساخرة، وساذجة، وأحيانا تافهة، لكن، في الأخير، "الكوميديا مسألة جادّة".