عربيّته جميلة بدل لغته جميلة
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
أقف أحيانا، في ما أقرأ من ترجمات للأدب العالمي إلى العربية، مع مترجمين تحلو معهم اللغة العربية، وبذلك يمكن القول إن هذا المترجم "عربيته جميلة"، عوض القول "إن لغته جميلة" التي اعتدنا على النطق بها، وأخصّ هنا المترجمين السوريين. وأظن أن سبب قوة المترجم السوري تكوينه الرصين في اللغة العربية في أثناء الدراسة الأولى، سيتخرّج الطفل من المدرسة ملمّا ليس بالنحو وحده، إنما أيضا بالبلاغة وأخواتها من تشبيه واستعارة وكناية، وكذلك قارئا للنصوص التراثية وحافظا للأشعار. وحين يحترف الترجمة بإتقانه لغة أخرى، فإن عربيّته، انطلاقا من البداية التأسيسية الموفّقة، ستتميّز بجمالها الملحوظ. على سبيل المثال، يمكن ذكر شيخ المترجمين العرب، سامي الدروبي، الذي استطاع بعربيّته الجميلة أن يسلب عقولنا تجاه دوستويفسكي. بل كل ما ترجمه عن الفرنسية يتميّز بهذه العربية الجميلة، وكذلك في ترجمته رائعة اليوغسلافي إيفو أندريتش "جسر على نهر درينا". ولمّا قرأتُ رواية تولستوي "القوزاق" بالعربية من ترجمته، تمنّيت لو أن الدروبي تناول مجمل أعمال هذا الكاتب العظيم، كما فعل مع دوستويفسكي. تمكّننا ترجمته الفريدة هذه الرواية من فهم عبقرية هذا الكاتب الروسي الاستثنائي (تولستوي) الذي مرّت في حياته جائزة نوبل أكثر من مرّة، من دون أن يحصل عليها، ما اعتبر خطأ لا يمكن تصحيحه. وقد كتب عن هذا الأمر كتّاب غربيون عديدون.
هناك كذلك مترجمون سوريون عن الروسية مباشرة، لا يقلّون قوة وبلاغة في عربيتهم، على سبيل المثال ضيف الله مراد وعادل إسماعيل ونوفل نيوف الذي فاز بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي. ومن المترجمين المتميزين بجمال عربيّتهم اللبناني عفيف دمشقية الذي تخصّص أكثر في ترجمة روايات أمين معلوف، وخصوصا روايته الفاتنة "سمرقند". لن نغفل كذلك بسهولة عن ترجمات الفلسطيني السوري صالح علماني الذي ترك بصمته الجميلة بوضوح عليها، حتى قيل إن علماني يترجم جميع الروايات بأسلوب واحد. ربما لأن من نشأوا في سورية كذلك، بسبب وقوع بلادهم في الوسطين، الحضاري والمدني، يتشرّبون اللغات بمجهود وعصامية شخصية.
حين أقع على كتاب مترجمه سوري، أشعر بأني سأعيش ساعاتٍ مع عربية قوية وممتعة، كما حدث لي أخيرا مع ترجمة لمخطوط عن الروسية، أنجزها السوري ضيف الله مراد. شعرت أن المترجم كأنه يدرك حتى كنه السخرية في الأدب الروسي القديم التي عُرف بها تشيخوف، وتسللت إلى نسيج كتّاب روسٍ كثيرين. ولأن ترجمة الشعر صعبة، أو كما قال الجاحظ في كتابه "الحيوان" "لا تجوز الترجمة مع الشعر"، فإن خير من ترجم الشعر إلى العربية الشاعر العراقي سعدي يوسف. يتبدى ذلك في مختاراته للشاعر قسطنطين كافافس، حين ترجم له مائة قصيدة عن الإنكليزية. هنا سيعيش القارئ مع عربية سعدي وإحساسه العميق بما يترجم. ترجم آخرون كافافس بعده، ولكن ترجمته هي الأقرب لروح الشاعر الأصلية، تشعر بذلك بسهولة وأنت تقرأ.
يترك كل مترجم بصمته، التي ليست سوى شبكة طويلة من ثقافته وقراءاته والتقاطاته ونباهته، ناهيك عن شغفه بما يقرأه قبل أن يترجمه. هنا نكون مع مترجمين يعيشون مع أعمالهم، ثم تراهم وهم يحوّلونها إلى اللغة العربية وكأنهم يبدعونها من جديد. يقال إن أحمد رامي حين ترجم رباعيات عمر الخيام أخذ عصارة القصيدة الأصلية، ثم أبدع نصه الخاص، فشاعرية رامي واضحة في النص، وزادته جمالا. ينسحب الأمر كذلك حتى على ترجمة البحوث والدراسات والكتب التاريخية و الفكرية. نجد مثلا أن القرّاء قد عانوا مع ترجمة كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" بسبب ترجمة كمال أبو ديب، الذي رغم مكانته العلمية الكبيرة إلا أن ترجمته جاءت نخبويةً إلى حد واضح، إلى أن تصدّى لترجمة الكتاب المصري محمد عناني الذي رحل قبل أيام، فشعر القارئ وكأن كتاب "الاستشراق" قد عاد إلينا من جديد.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية