عرس الدم وتمدّد الطاغية
تُختصر السخرية المأساويّة في سورية عبر مشهدٍ حقيقيّ لوقوف سوريين أمام "صناديق الاقتراع"، بينما موظف الصندوق يقدّم "خدماته" الانتخابيّة بوضع "نعم" لبشار الأسد، ثم تقديم الصوت للمنتظرين، لوضعه بيدهم في بريد "البيعة"، بعد تدوين معلومات هوياتهم الشخصيّة، وتسجيل ما يشبه "صكّ" النجاة من العقاب لكلّ من لا يمارس هذا "الاستحقاق"!
شكّلتْ لقمة العيش السلاح الأبرز الذي استخدمه نظام الأسد ضد الثورة السوريّة. وتأتي الأخبار من مناطق سيطرة النظام، خصوصاً محيط دمشق وعشوائيّاتها، على معاناة السكان هناك اليوميّة، للحصول على الوقود والغاز والماء والكهرباء، وهي أبسط الخدمات التي يمكن تأمينها، على الأقل من "الحلفاء – المحتلين"، بعد انتهاء المعارك على خريطة واسعة قرب تلك المناطق. إلّا أنّ الذهنيّة التأديبيّة تحتّم على سلطات الأسد اتباع سياسة الانتقام؛ لأنّ نظامه يتعرّض لعقوباتٍ دوليّة، وهذا ما يروّجه إعلامه، بعبارة "الحرب على سورية"، ويصرّ على نشر التعبئة خدمةً لمصالح الأسد فقط.
ظهر، أخيراً، مقطع فيديو، أيضاً لكاميرا تلفزيون النظام؛ وهي تقوم بـ"دوريّة تموينيّة" على بعض بسطات الفقراء، لتسجّل عليهم "مخالفات أسعار" على الهواء مباشرةً (!) فيما ينهر من خلف المذيعة موظف؛ برتبة شرطي، صاحب البسطة قائلاً: "هات هويتك لشوف، هات...". لم يتغيّر شيء طوال عشر سنوات من الحرب والثورة. ذهنيّة إعلام الطاغية تحافظ بدقّة على التركيز في سطحيّات الحياة اليوميّة، لضبط احتقان الشارع المسحوق، وسيكون هذا الإعلام ذاته مهرجاناً للدبكات وشكر السماء مع "انتصار" بشار مجدّداً على منافسيه في مؤامرة "الانتخابات".
هيكليّة المؤسسات في سورية كانت وما زالت مبنيّةً على الولاء المطلق لعائلة الأسد في كلّ مجالات الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والاجتماعيّة
"حاجز إعلامي" أمام الكاميرا. إنّهم يفتشون عن طرق جديدة لإهانة الناس. ومع حملة رأس النظام "الأمل والعمل" الانتخابيّة، بدت البلاد كأنّها خشبة مسرح حقيقيّة، عملاقة، مكلّلة بالدم والدمار، اختبرتْ فيها القوة الكبرى أسلحتها. كذلك، تحاول الفصائل المعارضة، الممزّقة، استعراض سخريتها من نتائج الصراع العسكري، فيما تفتتح "تحرير الشام" مزيداً من مكاتب التجنيد لخدمتها، كأنّ الثورة ختمت حدودها في هذا التشكيل العسكري الذي لا يَسمع إلّا صوته.
وفي الوقت الذي ذهب به بشار الأسد إلى دوما في ريف دمشق، ليعلن من هناك أنّ رأي العالم يساوي "صفراً" في انتخاباته العسكريّة، تعمل إيران بهدوء على تثبيت حضورها الديموغرافي والفكري والاجتماعي؛ إذ فتحت قنصليّة لها في حلب، وقاعدة عسكريّة على تلة في قرية حبوبة بريف حلب، وتركز، كما باقي الدول التي تتصارع في سورية، على العصب الاقتصاديّ الذي كان متمثلاً بمدينة حلب، للبدء بتكوين البلاد التي تريدها روسيا وتركيا وإيران، منزوعة القوّة والوحدة وذات أقاليم تابعة للخارج.
وتصرّ آلة الإعلام في نظام بشار الأسد على اختراع مفرداتٍ تزهو بها وتفرضها بقوّة السلاح، مثل عبارة "الأمل بالعمل" ولا أحد يعلم ما هو العمل المقبل الذي يريد هذا النظام فعله لتطويع الشعب المتبقي، وتربيته كما يريد بشار. ومن بين العبارات الرنّانة أيضاً، عبارة "العرس الانتخابيّ" والتي يسلّم فيها من بقوا من موالي الأسد ضميرهم وكرامتهم لكلمة "نعم" بالدم للطاغية، وينشرونها على منصّات التواصل الإلكترونيّة، تأكيداً منهم على "عفّة" الوعي وبكريّته وعبوديّته المستمرّة لأيّ شيء من عائلة الأسد.
مع حملة رأس النظام "الأمل والعمل" الانتخابيّة، بدت البلاد كأنّها خشبة مسرح حقيقيّة، عملاقة، مكلّلة بالدم والدمار
وربما بات واضحاً أنّ هيكليّة المؤسسات في سورية كانت وما زالت مبنيّةً على الولاء المطلق لعائلة الأسد في كلّ مجالات الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والاجتماعيّة، وكلّ من لا يثبت ولاءه، يتم اختراع تهمة له من عيار "وهن نفسية الأمة"، ويُنسى كأنّه لم يكن؛ في ظلمات أجهزة الرعب التابعة للأسد، وهذا ما يبرّر وجود آلاف من الناس على صناديق "العرس".
لا ينظر هؤلاء في ساحة الأمويين اليوم، وفي خيم "الولاء" العبثيّة، على طول مناطق سيطرة روسيا وإيران، بين قوسين، قوات النظام، إلى ما وصلت إليه البلاد، بسببهم أولاً، ثم بسبب جيش النظام الذي دمر كلّ من قال "لا" للأسد، ألم يكتبوا، منذ أيام الثورة الأولى: "الأسد أو نحرق البلد"؟ لم يرَ هؤلاء، بعد التدمير الممنهج لكلّ المناطق المعارضة في سورية، وتهجير ملايين الناس من البلاد، والبحث عن "سورية المفيدة" التي ترى بشار هو "الضامن الوحيد" للدين والدولة والمجتمع والأطفال والتعليم، والحريّات حتى! ها هم اليوم يهادنون بدماء من ماتوا لتكون سورية حرّة، لتتحقق الديمقراطيّة، ولينزل العسكر عن سدّة الحكم التي انتهكوها منذ ستين عاماً.
من يجعل شوكة المحتلّ قلماً يشطب به إشارة "نعم" لعرس السخرية الذي انتشر في سورية وسفارات النظام، لا أظن أنّه يعلم ماذا تعني كلمة "شعب" بل على العكس؛ إنّهم يعلمون فقط كيف يكون النباح على إخوتهم في التاريخ والأرض، ممن رفضوا الظلم، وأرادوا صوتهم صادقاً، لا تبلّله كعوب بنادق وأحذية المجرمين الذين يسموّن أنفسهم "فروع المخابرات والجيش".
ينتمي الشمال السوري شيئاً فشيئاً إلى العزلة والتقسيم، بفضل صراع الفصائل وتركيا مع الأكراد
إنّهم يلاحقون مهرّب دخان في شوارع دمشق صباحاً، ثم يحملون أطنان الحشيش لمليشيات إيران إلى ما وراء الحدود، إلى تركيا، إلى الأردن إلى رومانيا... يفتحون متاحف سورية للبعثات الروسيّة لتنقّب عن الآثار السوريّة وتنقلها، ويوزّعون صكوك الملكيّات لإيران لتغيّر ديموغرافيا المناطق، وتنشر آفة مراكزها الثقافيّة وتقدّم منحها الماليّة للسوريين.
إنّهم يتاجرون مع "تحرير الشام" و"قسد" عبر الحدود، بالقمح والمحروقات والكهرباء، ويعطون رخص التنقيب عن الغاز الطبيعي لشركاتٍ روسيّة، ثم يركزون على الأعراس الانتخابيّة، يلاحقون صاحب بسطةٍ لأنّه أضاف قليلاً على التسعيرة قبل أن يتحوّل لمجرم بسبب جوعه، ربما. ويهينون الفقراء على الهواء مباشرةً، بينما تتمدّد إيران في سورية، وتختبر روسيا سلاحها أيضاً في سورية، فيما ينتمي الشمال السوري شيئاً فشيئاً إلى العزلة والتقسيم، بفضل صراع الفصائل وتركيا مع الأكراد.
تتوالى الصور في البال، ونحن نتابع كلّ هذا العبث السوريّ، هذا حاكمٌ يهتم بمظهره أمام العدسات، فيما يداه ملوثتان بما سفك من أحرارٍ قالوا لحكمه "لا". هذه جموع في شوارع العاصمة تلوّح بأعلام المحتلين، وتكتب بالروسيّة والفارسيّة والعربيّة "نعم لعرس الدم".