عزيزي بيريز .. ولي أمري نفتالي
قالت أكثر من صحيفة من صحف عبد الفتاح السيسي إنه أكد لرئيس حكومة الاحتلال الصهيوني، نفتالي بينيت، أهمية دعم المجتمع الدولي لجهود مصر لإعادة الإعمار وتخفيف التوتر في غزة. واحتلت الصحف ذاتها، أيضًا، بما ورد على لسان السيسي بشأن "تفاهم مشترك مع رئيس الوزراء الصهيوني بشأن سد النهضة، ونحاول معالجة الملف بالحوار".
في التفاصيل، أوردت الصحف، نقلًا عن السيسي، إنه "تناول ملف سد النهضة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، متابعًا: هناك تفهم مشترك فيما يخص الموضوع، ونحاول معالجته في إطار من التفاوض والحوار، وصولا إلى اتفاق بالموضوع الهام بالنسبة لنا الذي نعتبره حياة أو موت".
إذن، وبوضوح وانكشاف كاملين، تبيّن أنّ ما كان محض تسريباتٍ وتكهناتٍ هو مشاريع وخطط وسيناريوهات قيد التنفيذ، تؤدّي كلها إلى واقع جديد مخجل ومشين: أزمة سد النهضة والصراع على مياه النيل صار بعهدة الكيان الصهيوني.
لم يحدُث في تاريخ التطبيع الرسمي مع الاحتلال الإسرائيلي أن أعلن حاكم مصري، بكل وضوح، إنه يطلب مساعدة الصهيوني في ملف من الملفات، ذلك أنه من أنور السادات إلى حسني مبارك كانت اللافتة المرفوعة دائمًا هي "نتجرّع سم التطبيع من أجل قضية فلسطين". وعلى ذلك، كان المطروح من مبارك، مثلًا، إنه يمضي في ذلك المسار من دون أن يتخلّى عن الالتزام القومي والتاريخي بقضية فلسطين، بل أنه، وهو الذي كانت تسميه تل أبيب كنزًا استراتيجيًا لها، لم يزر الكيان الصهيوني سوى مرة، في جنازة رئيس حكومة الاحتلال إسحاق رابين عام 1995.
كان مبارك يطبّع على خجل، ويحرص طوال الوقت على السماح بخطاب قومي عروبي زاعق ينطلق من صحافة الهامش الديمقراطي، ويجري أحيانًا على لسان مستشاره وسكرتيره لشؤون المعلومات، الراحل أسامة الباز، وفي حالاتٍ نادرةٍ كان الأمر يصل إلى إدلاء وزير خارجيته، عمرو موسى، بتصريحات تتناول إسرائيل عدوًا تاريخيًا، تدير القاهرة صراعها معه بما يسمّى السلام، بديلًا عن الحرب.
لم يحدُث أبدًا أن جاء مسؤول مصري بتصريحاتٍ هي استجداءٌ كامل لمساعدة الكيان الصهيوني في قضايا مصيرية، حتى جاء السيسي ليمثُل بين يدي رئيس حكومة الاحتلال، اليميني المتطرف، نفتالي بينيت، في شرم الشيخ، ويبثّه همومه وأشجانه الخاصة بضرورة حصول مصر على دعم المجتمع الدولي لكي يتم إعمار غزة .. هي المرّة الأولى في تاريخ الصراع التي تضع مصر الرسمية مشكلاتها المادية في عهدة الكيان الصهيوني، على نحو يكشف أن مسألة غزة وإعادة إعمارها، وقضية فلسطين برمتها، ليست سوى وسيلة للتكسّب الاقتصادي، وأداة لغسيل السمعة السياسية عند النظام المصري.
غير أن الأسوأ والأكثر عارًا وعريًا أن يتم الإعلان عن حضور العدو الصهيوني رسميًا، وعلى لسان أعلى مسؤول في النظام، للعب دور مساند للقاهرة في قضية سد النهضة، بما يحقق الحلم الصهيوني القديم في مياه النيل، والذي تحاول الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ توقيع كامب ديفيد الوصول إليه، وفي ذلك صدرت كتب وبيانات تحذّر من المسكوت عنه في بنود التطبيع المبكر، ومن ذلك ما تناوله نقيب نقباء الصحافيين المصريين الراحل، كامل زهيري، في كتابه "النيل في خطر"، حيث يعود بالحكاية إلى العام 1903، حيث مشروع اتفاقية توطين اليهود في سيناء 99 عاما. ويورد نص تقرير البعثة الصهيونية التي زارت سيناء أيام الاحتلال البريطاني، واقترحت تحويل مياه النيل تحت قناة السويس، وحقيقة الاتصالات السرّية بين المليونير الصهيوني روتشيلد وجوزيف تشمبرلين وتيودور هرتزل وبين اللورد كرومر وبطرس باشا غالي.
في إبريل/ نيسان الماضي، كتبت في هذا المكان تحت عنوان "من النيل إلى دير السلطان: الصهيوني حكمًا"، وقلت إن كل ما يجري أمامك، هذه الأيام، في موضوع مياه النيل، يقول إننا بصدد حالة "كامب ديفيد" جديدة بعد أكثر من أربعين عامًا على كامب ديفيد أنور السادات، والتي كانت انقلابًا عنيفًا على كل مقتضيات التاريخ والجغرافيا أيضًا.
الشاهد أن الموضوع الفلسطيني كان مهمّشًا، حد الغياب، في مباحثات السيسي - بينت، فيما كان الموضوع الأساس هو مياه النيل، في توقيتٍ لا تخفى دلالاته على متابع، ذلك أن رئيس الوزراء الصهيوني جاء إلى شرم الشيخ بعد أيام من عودته من واشنطن، التي تحدثت بوضوح وقت الزيارة عن دورٍ لإسرائيل في ملف سد النهضة، ومن ثم يبدو بينت وكأنه الحكم الذي كلفته إدارة بايدن بإدارة هذا الملف.
لعلك تذكر أنه في مطلع العام الجاري كلفت خارجية السيسي سفيرها في واشنطن بنشر مقال على صفحات مجلة "فورين بوليسي" بشأن سد النهضة، وصفته وقتها بأنه يعد شكلًا من أشكال تسول الحلول من أميركا. واستدرارًا للعطف الأميركي، وبالتبعية الإسرائيلي، من خلال التذكير بأن مصر كانت أربعين عامًا الموظف المطيع في "عملية السلام" والحارس الوفي على "كامب ديفيد" فيكتب "نحن احترمنا اتفاقاتنا مع إسرائيل وشجعنا اتفاقات الدول العربية مع اسرائيل، وخلال 40 عاما كانت أميركا ومصر علي تفاهم وتشاور كامل ومفيد قبل اتخاذ القرارات. نحن نريد تدخّل الرئيس الأميركي للمساعدة في الوصول إلى اتفاقٍ بضمان أميركا".
وها هو الرئيس الأميركي لم يكذب خبرًا، وأحال الملف إلى رئيس حكومة الاحتلال الصهيوني، الذي يعلن السيسي، بوضوح كامل، أنه على تفاهم مشترك معه بشأن هذا الملف.