عشرون رحلة إلى الصين

23 أكتوبر 2024
+ الخط -

أكتب من الصين التي أزورها للمرّة العشرين، مشاركاً في مؤتمر تعقده مؤسسة كونفوشيوس الدولية المتخصصة بالدراسات الصينية، بمناسبة مرور 2575 عاماً على ميلاد فيلسوف الصين العظيم، وفيها متابعة لزيارات سابقة امتدت على مدار 17 عاماً للمشاركة في مؤتمرات بحثية وفعاليات ثقافية ومناسبات فنية، فضلاً عن المشاركة في معرض بكين الدولي للكتاب.

لاحظت منذ زيارتي الأولى في عام 2007 أن تلك البلاد تمثل عالماً مليئاً بالفرص، لذا باتت دراسة النهضة الصينية أمراً مُلحاً بالنسبة لي، بخاصة لأننا كنّا (نحن العرب) قلّما نلتفت شرقاً وقتها، فأمثلتنا وبحوثنا كانت عادة ما تتعلق بالغرب، وكان ثمّة سؤال يُلّح علي: كيف سيكون حالنا في العالم إذا مالت موازين القوى مستقبلاً باتجاه الشرق، أو حتى توازنت بين الشرق والغرب؟ وكيف علينا أن نستعد للدور الصيني المتعاظم في العالم، المدفوع بحماسة الصينيين وفخرهم ببلادهم، فنستعين به لنضمن لمشروعنا النهضوي إمكانات أوسع؟ وعلى هذا، انخرطت في دراسة الصين ومتابعتها على مدار تلك السنين.

لقد أثبتت الصين على مر العقود الأربعة الماضية نجاح النهج البراغماتي الذي يقوم على أساس وطني ثابت، وفشل النهج الأيديولوجي الذي يقدّم الوسيلة على الغاية. ولمّا كان العرب قد تخلوا عن النهج البراغماتي في سعيهم إلى النهضة، وأخذوا بالأيديولوجيا منذ نحو قرن ونصف، ثم راحوا يسجلون الفشل الحضاري تلو الآخر، فإن نجاحات الصين الحضارية تقدّم أمامهم دليلاً على ضرورة استعادة الفلسفة الأولى لمشروعهم النهضوي الذي نظّر له رفاعة الطهطاوي ببراعة، وقوامُها الاهتمام بالغاية الوطنية النبيلة، وتقديمها على الوسيلة، من دون إهمال الثوابت الأخلاقية التي لا غنى عنها للنجاح.

النهوض لم يكن حصيلة تغيّر اجتماعي قاد إلى تطوير بنى الدولة، بل نتيجة قرار سياسي رشيد تمثل في التحول نحو الانفتاح

في روافع صعود الصين الذي يثير التساؤلات وتدور حوله إجابات كثيرة دقيقة تارة وطائشة تارة أخرى، يمكن تكثيف النهج الصيني الذي أفضى إلى هذه النهضة الكبيرة المشهودة، والذي عُرف باسم "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية"، بأنه قام على بعدين: الأول، استعمال بعض آليات اقتصاد السوق، وفق منهج سمح بظهور طبقة من الصينيين الأثرياء، مترافقاً مع تقليص الخدمات المجانية التي تقدّمها الدولة، تحت شعار مشاركة الجماهير في تحمل أعباء التنمية. والثاني، الانفتاح على العالم، مع الحفاظ على ضرورات السيادة الوطنية.

قامت نظرية "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية" على تحرير الاقتصاد الصيني، في ظل رقابة الحكومة وتوجيهها للسياسة الاقتصادية العامة، بغرض الحفاظ على سيادة الدولة على اقتصادها، وعدم جعله بوابة للسيطرة الأميركية عليها، بخاصة بعد أحداث ميدان تيان آن مين في العام 1989 التي هدفت للإطاحة بالنظام الشيوعي الصيني، بدعم غربي تزامن مع تفكك الكتلة الاشتراكية. وبحسب مقرّرات المؤتمر العام الرابع عشر للحزب الشيوعي الصيني (أكتوبر/ تشرين الأول 1992)، قامت تلك النظرية على مبدأ مفاده: "مع الحفاظ على السيطرة الحكومية الكلية على العمليات الاقتصادية، يجب أن تخضع الأنشطة الاقتصادية والتجارية لقانون القيمة، وتستجيب للتغييرات التي يفرضها العرض والطلب في السوق. كما أن السوق هو الذي يتحكّم بتحديد الأسعار. والمنافسة تحفز المؤسسات الإنتاجية والتسويقية لبذل مزيدٍ من النشاط، ما يؤدّي إلى ازدهار الهيئات الناجحة وتصفية المؤسّسات الخاسرة. على أن يُفتح الاقتصاد أمام شكل جديد من الملكية، هو "الشركات المساهمة".

بإمكاننا، نحن الشعوب، أن نبني علاقات وثيقة مع الصين تخدم الأجيال الجديدة

ورغم أن الصين لم تبدأ من الصفر في العام 1978، الذي شهد تحوّلها إلى سياسة الإصلاح والانفتاح عقب وفاة مؤسّس الجمهورية الشعبية ماو تسي تونغ، إذ كانت سنوات ماو قد أسّست لنهوض الصين وتحوّلها إلى دولة كبرى مؤثرة في محيطها والعالم، بما في ذلك امتلاكها السلاح النووي منذ العام 1964، وتطويرها قدرات صناعية هائلة، إلا أن الإنجازات الكبيرة التي تحققت لاحقاً تدل على أن النهوض لم يكن حصيلة تغيّر اجتماعي قاد إلى تطوير بنى الدولة، بل نتيجة قرار سياسي رشيد تمثل في التحول نحو الانفتاح، وعرف كيف يوظف مقدّرات الدولة ومواردها من أجل تحقيق نهوضها.

اليوم، بعد كل الذي جرى بين الصين والولايات المتحدة من صراع وتنافس، منذ قرّرت بكين التحول إلى دولة عظمى، تغيّر شكل النظام العالمي من أحادي القطبية إلى متعدّد الأقطاب مع وصول رئيسها الحالي شي جين بينغ إلى السلطة في 2012، وإطلاقه مبادرة الحزام والطريق التي تستعمل النجاحات الاقتصادية لتعديل النظام العالمي، ثم وصول جو بادين إلى البيت الأبيض واتّباعه سياسة الردع المتكامل تجاه الصين؛ عسكرياً وسياسياً وتجارياً وتكنولوجياً، فإن مكانة الصين ودورها العالمي تغير بوضوح، لكن شكله النهائي ما زال في طور التشكّل، وما زلنا نحن العرب مطالبين بالاستعداد للمستقبل الصيني، وبناء علاقة مفيدة معها تجسر الهوة الحضارية التي تفصلنا عن العالم الصناعي.

وفي تجربتي، لا تقلّ العلاقات الشعبية مع هذه الدولة الصاعدة أهمية عن الرسمية، بل تفوقها تأثيراً، لأن بإمكاننا، نحن الشعوب، أن نبني علاقات وثيقة مع الصين تخدم الأجيال الجديدة، وتصنع لأبنائنا حياة أفضل في هذا العالم، من خلال العمل معاً خارج القنوات الرسمية الحكومية ومن خلالها، من دون أن نأخذ بالحسبان اعتبارات السياسيين وتوازناتهم التي هي في الحقيقة جوهر ما يعيق بناء علاقة عربية صحّية ومفيدة مع الصين.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.