عشر سنوات من "العدالة والتنمية" في المغرب
انقضت، بحلول الثامن من سبتمبر/ أيلول الجاري، عشر سنوات على رئاسة حزب العدالة والتنمية الحكومة في المغرب. عشر سنوات لم تكن هيِّنة، من حيث طول العمر الحكومي الذي أدركه الحزب "الإسلامي"، وحيث كثافة الزمن السياسي الذي شغله بامتياز. لم يسبق أن عرف المغرب، منذ ما سمي "التناوب التوافقي"، هيمنة حزبٍ واحد على المشهد السياسي، بالدرجة التي صارت لـ"العدالة والتنمية". ويمكن عدّ تجربة الحزب، في بُعديْها السياسي والحكومي، إحدى أبرز التجارب المغربية، في ما واكب انبثاقها من سياقاتٍ وإشكالات، وما رافق سيرورتها من قضايا وأسئلة. بعد ولايتين حكوميتين متتاليتين، من المتوقع أن يدخل المغرب في ركودٍ سياسي، في انتظار ما قد يعِدُ به "اليسار غير الحكومي"، إن هو ابتعد عن سجالاته السياسية الزائدة، وانقساماته التنظيمية الحادّة. الممارسة السياسية، ومن ثمّ الحكومة السياسية، منذورتان للخفوت مغربياً، في ظل وجود عناصر بُنيوية تنال، باستمرار، من رصيد "الثقة" بالعمل السياسي.
بعد انتخابات 8 سبتمبر، المحلية والجهوية والتشريعية، لن يعود "العدالة والتنمية" إلى ما كان عليه، بعد التي أعقبت ما سُميت "حركة 20 فبراير"(2011)، وما جرى في إثرها من تعديلاتٍ دستورية. ويبدو أن ترؤس الحكومة ولايتين متعاقبتين، قد أدّى إلى إنهاك الحزب، وبالتالي ساهم في النّيْل من رصيد مقبوليته، لدى القريبين من خطه السياسي، وخصوصاً من مُنتسبي الطبقة الوسطى "المُحافِظة". التناوب الديمقراطي، في التداول على تدبير (تسيير) الشأن العام، وإن تعدّدت الولايات الحكومية، هو القاعدة العامة. ليس بمقدور أي حزب، في ظل وجود تعدّدية حزبية حقيقية، أن يستبد بسلطة القرار الحكومي إلى الأبد. يبدو أن هذا التحليل طبيعي، إذا وقفنا عند حدود الإعلان عن المبادئ العامة، في مثل هذه الأمور ذات الصلة بالشأن العام. ولكن، هل هذا هو كل ما كان وراء فشل "العدالة والتنمية"، الحزب الأغلبي خلال الولايتين الأخيرتين، في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة؟
حتى قبل أن تخرج نتائج الانتخابات، كان في الوسع ملاحظة وجود مزاج شعبي عام، يُنكر على الحكومة أداءها الضعيف في أكثر من مِلفّ، بل وتراجعها عن عدد من المكاسب. ومن المفارقات الكبرى والغريبة أن مَن يعبِّر عن هذا المزاج الساخط هم من أغلبية رافضي المشاركة في التصويت. ولذلك، غالباً ما لا يكون لهذه الأغلبية "المُقاطعة" تأثير ملموس على خريطة هذه الاستحقاقات. "العدالة والتنمية" يربح أكثر، في وجود إقبال على الاقتراع أقلّ. وقد اعتُبر هذا من العوامل الرئيسة التي وصلت بالحزب إلى الحكومة، خلال استحقاقات 2016. لكن، ما يحصل مع "التجمع الوطني للأحرار" تحت قيادة الملياردير عزيز أخنوش، بات يربك الخريطة السياسية، رأساً على عقب. لنخرج من الإطار العام، ولنحاول الخوض في المبرّرات الموضوعية التي أفقدت الحزب الإسلامي سعة مقبوليته التي كانت له خلال مرحلة ما بعد "الربيع العربي"، مع افتراض وجود انفتاح ديمقراطي داخل العملية الانتخابية. كل ما يُساق بخصوص أخنوش، أي في ما اتُّهم به حزبه من استعمال المال الانتخابي، إضافة إلى استعانته بـ"الإدارة"، يمكن تأجيل التقصّي والبحث فيهما إلى حين. الآن، يُراد الوقوف على العوامل الموضوعية، التي وقفت في وجه "العدالة والتنمية"، من دون الظهور بمظهر الحزب القائد للأغلبية، الأمين لمبادئه وخطه السياسي، والوفي لعناصر رؤيته الإصلاحية.
اختزل "العدالة والتنمية" شعاره في "مُحاربة الفساد". ومن المثير للانتباه أن هذا الشعار، في أصله، كان لحركة 20 فبراير
لم ينخرط "العدالة والتنمية" في دينامية حركة 20 فبراير، المُطالبة بـ "محاربة الفساد وإسقاط الاستبداد". بل على النقيض من نظيرته جماعة العدل والإحسان التي تحظى بصوت مسموع لدى طيف واسع من الإسلاميين، هي الأخرى، حذّر الأمين العام للعدالة والتنمية، عبد الإله بنكيران، مُنتسبي الحزب من مغبّة المشاركة في فعاليات "الحركة" الشبابية، غير أن ثمار "الربيع المغربي" سيجنيها "إخوان بنكيران"، بعد التعديلات الدستورية التي أدّت إلى انتخاباتٍ سابقةٍ لأوانها، أفرزت "العدالة والتنمية" متصدّراً أول، من حيث نسبة المقاعد المُحصَّل عليها. تكاد الأمور تتشابه بين الإسلاميين، بمشرق الوطن العربي ومغربه، في طريقة تعاطيهم مع أحداث الربيع العربي. ومما تجب الإشارة إليه أن وجود "مَلَكِيَّة" مغربية مستقرة، لها من الشرعية التاريخية الرصيد الأوفر، قد ساهم في أن تأخذ تلك الأحداث مساراً إيجابياً، بعد خطاب 9 مارس/ آذار 2011.
لقد اختزل "العدالة والتنمية" شعاره في "مُحاربة الفساد". ومن المثير للانتباه أن هذا الشعار، في أصله، كان لحركة 20 فبراير. والأكثر إثارة للانتباه من ذلك أن شعار الحزب، الذي بنى عليه حملته الانتخابية لاستحقاقات 2011، يبدو أنه لا يُشكِّل إلا الجزء الأول من شعار "الحركة"، أي من دون تضمُّن "إسقاط الاستبداد" بالطبع. المدى، الذي بات ينظر إليه قياديو الحزب، حينذاك، كان واضح المسار والمعالم. ولذلك، كان مفهوماً، بالنسبة لأي محلّل سياسي، "مَاذا" كان يُقصد بشعار آخر: "الإصلاح في ظل الاستقرار". الحاجة إلى التّطبيع مع الدولة، وعدم الدخول في أي تنازع مع الملك حول الصلاحيات، استنفدا "المساحات" التي حصّلتها رئاسة الحكومة، بعد تعديلات 2011 الدستورية.
يمكن قراءة تردد الحزب في تَوجُّهيْن لبنكيران (خلال ولايته الحكومية)، عبر ما كانت تختزله خطاباته المتضاربة: فهو لا يكلّ من التنديد بما يسميها "التماسيح والعفاريت" (في كناية مجازية عن الدولة العميقة) من جهة، ولا يكلّ من توصيف نفسه بأنه "موظف" لدى الملك، من جهة أخرى. أصول الخطاب المزدوج للـ"عدالة والتنمية"، الذي استمر في عهد سعد الدين العثماني أميناً عاماً، يمكن تبريرها بالإحالة إلى ما عاناه الإسلاميون، بعد أحداث الدار البيضاء الإرهابية (16 مايو/ أيار 2003)، حين كان مُعظم الأصوات السياسية والإعلامية يتجه إليهم بالاتِّهام، غير أن الخشية من شبهة خدمة أجنداتٍ غير وطنية، بحكم انتمائهم الإيديولوجي الإسلاموي، سيدفع بهم إلى محاولة التماهي مع الدولة، مهما كلفهم ذلك من أثمانٍ باهظة.
صحيحٌ، الدولة فوق الحزب. لكن الحزب وُجد لخدمة الدولة، من منطلق مقاربة معينة لخدمة الشأن العام من جهة، وخدمة المصالح العليا للبلاد من جهة أخرى. وبالطبع، كل حزبٍ يختلف عن الآخر، على مستوى طبيعة المقاربة المطلوبة. وإلا لما وُجدت الأحزاب، في تعدّديتها واختلاف مرجعياتها ومشاريعها، أصلاً. البراغماتية، التي بدون حدود، هي التي أفرزت حزباً مختلفاً، بالمقارنة مع الحزب الذي نال ثقة الناخبين. هكذا، يكون "إسلاميو الحكومة" قد أهدروا على المغاربة قراءة تقدّمية للدستور الجديد. ويظهر أن عدم التخلّص من "عقدة النشأة"، إضافة إلى الرغبة المستبدّة بالتطبيع مع الدولة، أفقدا الحزب طراوة الخطاب، وحسّ المبادرة، وجرأة الممانعة. كان متوقعاً أن يسقط الحزب سقوطاً حرّاً في أتون "البراغماتية" الفجّة التي لم تُفوِّت الفرصة لتعصف بالأسس والمنطلقات المرجعية.
كان في الوسع ملاحظة وجود مزاج شعبي عام، يُنكر على الحكومة أداءها الضعيف في أكثر من مِلفّ
يمكن العودة إلى بعض "العناوين" الكبرى التي من شأنها أن تلخِّص كيفية التعاطي السلبي للأمين العام للحزب (وهو على رأس الحكومة) مع قضايا حارقة، كان يشكل الموقف المبدئي منها ركائز مرجعيتهم الإسلامية: لغة التعليم، تقنين إنتاج القنّب الهندي، التطبيع مع الصهاينة.. إلخ. كانت الحكومات، التي رَأَسَها "العدالة والتنمية"، تكنوقراطية في جوهرها. البُعد السياسي المفترض لتلك الحكومات يكاد يغيب. ولذلك، لم يلحظ المواطن أي توجهاتٍ جديدةٍ في مقاربة مشكلات البلاد، في ملفاتٍ اجتماعيةٍ واقتصادية وحقوقية عديدة. وحتى بالمقارنة مع حكومة الاشتراكيين، في عهد عبد الرحمن اليوسفي، خلال ما عُرف بـ" التناوب التوافقي"، فقد ظل سقف النتائج المحصلة منخفضاً بالمقارنة.
ما الذي يعنيه وجود "إسلاميين" على رأس الحكومة المغربية؟ أعتقد أن لا شيء يعنيه ذلك، بالاحتكام إلى كيفية تدبير (إدارة) الملفات في أكثر من مجال، وبالاحتكام إلى النتائج المتواضعة. مؤكّد أن المغاربة كانوا بإزاء حكومة يرأسها مُحافظون، بتوجهات تكنوقراطية واضحة، تستلهم حلولاً لمشكلات البلاد من كتاب "الليبرالية الجديدة" (حتى لا نقول المتوحشة). وفي هذا الإطار، لم يكن الحزب الإسلامي ليختلف عما تَقدَّمَه من أحزاب، خلال الولايات الحكومية السابقة (مع استثناء بسيط شكّلته حكومة اليوسفي).
عن أي إصلاح استمر "العدالة والتنمية" في الحديث إلى المغاربة، وفي سياقٍ يزداد فيه الإجهاز على عدد من المكتسبات (إلغاء المقاصّة، رفع سن التقاعد، التعاقد في الوظيف بدل الترسيم،.. إلخ)؟ من المعلوم أن "الربيع العربي" انبثق، في مُعظم الدول العربية التي شهدته، من رحم سياقات أفرزتها لحظةٌ ثورية. غير أن طريقة مقاربة أسئلة ذلك "الربيع"، مغربيّاً، حوّلته إلى لحظة إصلاحية، كان في الوسع أن يجنيها المغاربة جميعاً، تحت قيادة "العدالة والتنمية"، في ولايتين حكوميتين متعاقبتين، غير أنه، مع استمرار الاحتكاك بقضايا الشأن العام، في وجود ائتلاف حكومي غير منسجم، يهيمن عليه وزراء السيادة والتكنوقراط، ستؤول الأمور برئيس الحكومة إلى التنازل عن عدد من مسؤولياته. والمفارقة أن نجاحات الحكومة باتت تنسب إلى أولئك الوزراء، وليس إلى وزراء "العدالة والتنمية"، بالنظر إلى إشراف أخنوش ووزراء حزبه على أهم القطاعات المُنتجة.
لم ينخرط "العدالة والتنمية" في دينامية حركة 20 فبراير، المُطالبة بـ "محاربة الفساد وإسقاط الاستبداد"
في ظل "الإصلاح"، الذي رفع شعاره قياديو الحزب والحكومة، تحت السقوف الواطئة لما يسمَح به النسق السياسي القائم، لم يكن بالإمكان لمتصدّر للأغلبية أن يبادر بشيء، يشذّ عن السياسات العمومية المُتَّبعة. ولذلك، لن يفاجِئ المغاربة أن الملياردير، عزيز أخنوش، الذي التحق بحزب التجمع الوطني للأحرار حديثاً، واحتل رابعاً في استحقاقات 2016، سيكون الرئيس الفعلي للائتلاف الحكومي. كما أن المغاربة لم يفاجأوا حين تنازل سعد الدين العثماني عن خطوط بنكيران "الحمراء"، وقَبِل بتلبية جميع شروط أخنوش، مقابل تشكيل الحكومة (على جُثَّة سَلفه بنكيران). وأيضاً، لم يفاجأوا حين وجدوا "الاتحاد الاشتراكي"، الذي بالكاد شكّل فريقه النيابي، يشغل الموقع الثالث في الدولة "رئاسة البرلمان". ومرة أخرى، وبالطبع، لم يفاجِئ المغاربة أن "أحرار" أخنوش تصدّر المشهد السياسي، خلال استحقاقات سبتمبر/ أيلول الجاري.
ألم تكن هناك حاجة إلى رفع شعار الإصلاح السياسي، بالنسبة لمن عانوا "بلوكاج" تشكيل الحكومة أكثر من أربعة أشهر؟ أو ليس الإصلاح السياسي المدخل الرئيس للانتقال الديمقراطي في البلاد، بعد معاينة كثير من عناصر النقص والخلل في النظام السياسي برمته؟ هل كانت الأزمات التي ظلّ يرزح تحت وطأتها المواطنون، منذ تحقيق الاستقلال (1956)، ذات منشأ تقنوي خالص، بما كان يعنيه ذلك من حاجة إلى مقاربة تكنوقراطية خالصة أيضاً؟ طبيعي أن تعاتب قواعد "العدالة والتنمية" الأمين العام على النتائج الانتخابية الصادمة. كما أن من الطبيعي أن تُرفع في وجه هذا الأمين العام بطاقة الاستقالة. ولكن، هل كان العثماني يتحمّل وحده الفشل الذريع في الانتخابات؟ ألم يكن الأمر يتعلق بمسألة وقت، بعد الذي وطّأ له بنكيران من سياساتٍ عمومية، أجهزت على الطبقة الوسطى، لصالح لوبيات النفوذ الاقتصادي والمالي؟ ألم يتخلّ الحزب، بقواعده وقياداته، عن أصوله ومرجعياته، لصالح فقه مقاصدي - براغماتي لا حدود له؟