وديعة الحسن الثاني
أجرت صحيفة عربية مقابلة مع ملك المغرب الراحل، الحسن الثاني، مسّت مواضيع وطنية وإقليمية متعددة. كان الموضوع الأكثر أهمية، بالنظر إلى ما أثاره من تفاعلات، "وجهة النظر" التي عبّر عنها الملك، في فوز الإسلاميين في انتخابات الجزائر عامئذ. كان من رأيه، وهو يتحدث بصفة محلل سياسي وليس رئيس دولة، عدم إيقاف المسلسل الانتخابي، وبالتالي ترك الأمور تجربة ومختبرا. ولمن يعرف بقية الأحداث، المرتبطة بوجهة النظر تلك، يدرك أسباب الحملة الإعلامية الجزائرية التي تعرّض لها الحسن الثاني والمغرب.
وعلى الرغم من أن الحوار الصحافي جرى، بعد أن حصل الانقلاب على فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ، في 12 يناير/ كانون الثاني 1992، إلا أن وجهة النظر الملكية كان لها من السداد، ما عبّرت عنه "العشرية السوداء" التي اجتازتها الجزائر تاليا. وإن ارتبط سياق رسالة الحسن الثاني بفوز الإسلاميين، وأسلوب التعاطي معه، في سياق النتائج المحققة في استحقاقات 1991، فإن الوصيّة/ الوديعة ظلت محفوظةً من حيث راهنيّتها، إلى أن تبوّأ محمد السادس عرش المملكة. بالضبط، ذلك ما امتثل له الملك الجديد، حين سمح لإسلاميي حزب العدالة والتنمية بترؤس الحكومة، بعد فوزهم بانتخابات ما بعد ربيع 2011.
ونحن نتابع السقوط المدوّي للإسلاميين المغاربة، يوم 8 سبتمبر/ أيلول الجاري، ندرك قيمة الوديعة التي تركها الوالد لوريثه في العرش. اليوم، يطيب لمحللين سياسيين كثيرين التنويه بحكمة الحسن الثاني التي لم يهدر محمد السادس فرصة الاستفادة منها. كانت للدولة "سعة صدر" في ترك "إخوان بنكيران" يقودون الحكومة إلى أن قُدّر لهم، بعد عشر سنوات من تسيير الشأن العام، السقوط بالطريقة غير المسبوقة. في الواقع، لولا حركة 20 فبراير، التي قادها الشباب المغربي، ما كانت الدولة لتسمح للإسلاميين باكتساح مراكز الاقتراع عامئذ. ومنذ ذلك الحين، وكلما أحسّ الحزب بمضايقة الدولة، وإكراهات رجالاتها "في الظل"، صار زعيم "العدالة والتنمية"، عبد الإله بنكيران، يردّد على المسامع دور حزبه في تجنيب البلاد ارتدادات "الربيع العربي"، بأساليب فيها قدرٌ من المنّ والمزايدة، وحتى التهديد المبطن.
"العدالة والتنمية"، نفسُه، كان المساهم الأكبر في ما آل إليه أمره، في استحقاقات 2021 الخريفية العاصفة
استبدّ الإسلاميون المغاربة بالمشهد السياسي، عشر سنوات، بطريقةٍ ترافق معها "صخب" كثير. وهنا، يمكن تفسير الصخب بكسر "أفق الانتظار"، سواء عبر موجة التأييد العارمة التي حملتهم إلى الحكومة، أم عبر موجة التنديد التي قادتهم إلى خارجها. وإن انقضت ولاية سعد الدين العثماني، الذي كان يتمثل بشعار "العمل والسكات"، هادئةً باردة، إلا أن نهايتها كانت أكثر صخبا، بحكم النتائج الهزيلة التي حصدها مرشّحوه في انتخابات 2021. أما بنكيران، فظلت ولايته صاخبةً في مبتدئها ومنتهاها: في قراراته غير الشعبية، في استعارات خطاباته، وحتى في "قفشاته". لذلك، كانت "دولة المخزن" المحافظة، في تقاليدها وأعرافها، أكثر انتظارا لانقشاع غيمة بنكيران. ولأن خطأً في الحساب حصل، ثم عاد إسلاميو "العدالة والتنمية" إلى اكتساح انتخابات 2016، كانت ورقة "البلوكاج" قد أُشهِرت في وجه بنكيران، وعودته إلى رئاسة الحكومة مُجدّدا. بالقطع، كانت عودته مرفوضة، توقُّعا لاستمرار استبداده بالمشهد المغربي، شعبيا وسياسيا وإعلاميا.
ألم نقل إن صدر الدولة كان رحبا، حين سمحت بعشر سنوات حكومة للإسلاميين، في سابقة هي الأولى من نوعها في المغرب الحديث؟ واضحٌ أن مؤشّرات عديدة، ظاهرة وخفية، ظلت تنبئ بما تُبطنه الدولة "العميقة". ولذلك، كان القرار ألا يعود "العدالة والتنمية"، إلى رئاسة الحكومة على الأقلّ. هل حصل تزوير في انتخابات 8 سبتمبر؟ في الواقع، لم تتجاوز التصريحات، بهذا الشأن، حدود التخمين، بالإحالة إلى كثرة استعمال المال الانتخابي، عدم تسليم المحاضر في وقتها، .. إلخ. حتى "العدالة والتنمية"، الخاسر الأكبر في الانتخابات، لم يصدُر عن قيادته تصريح، فيه قطعٌ بالتزوير لصالح خصومها. أقصى ما قيل "نتائج غير مفهومة".
خمس سنوات، أي منذ عودة الحزب في 2016، كان هناك إعداد جيد لترتيب النتائج الحالية. "العدالة والتنمية"، نفسُه، كان المساهم الأكبر في ما آل إليه أمره، في استحقاقات 2021 الخريفية العاصفة. كان قياديوه كمن يقودون أنفسهم إلى المذبحة. التصريحات التي كان يتردّد بعضها، بين الفينة والأخرى، ظلت تحتمل التعبير عن الإحساس بالإنهاك، وبالتالي الرضى بعدم العودة إلى رئاسة الحكومة. ولكن، لماذا حصل الارتداد بهذه الطريقة الانقلابية الصادمة: من 125 مقعدا إلى 13 فقط؟ أريد للنتائج الدراماتيكية الحاصلة تعطيل عودة الإسلاميين عشر سنوات أخرى، في مقابل السنوات العشر التي قضوها في الحكومة (على الأقلّ). والإحالة إلى الإسلاميين، في العبارة الأخيرة، لا تعني "العدالة والتنمية" فحسب. الرسالة المُوجَّهة، بهذا الخصوص، يمكن تلخيصها في ما يأتي: كل الإسلاميين سواء، كانوا داخل النسق السياسي، أم خارجه، أم على هامشه.
ظلت التعدّدية المفرطة في الأحزاب بدون مشاريع وبرامج وخلفيات إيديولوجية واضحة، في الجزء الأكبر منها، عنصرا رئيسا من النسق السياسي المغربي العام
لقد سمح النسق السياسي، القائم في المغرب، بالتحكّم في الخريطة الانتخابية. كثرة الأحزاب، بالعدد الذي يصل إلى 30 حزبا، أحد العوامل الرئيسة في عدم بلوغ الأغلبية، أو حتى تشكيل الحكومة وفق اصطفافاتٍ منسجمة. ولذلك، من الجدير الانتباه إلى مفارقة الانتخابات الأخيرة، أي على تشكيل ائتلاف حكومي من ثلاثة أحزاب فقط (التجمع الوطني للأحرار، الأصالة والمعاصرة، الاستقلال). أليست هذه الانتخابات استثنائية في جميع أوجهها؟ التحكّم في تشكيل الائتلافات الحكومية، فيما لو حصلت نتائج غير متوقعة، كان الخيار الثاني بالنسبة لصُنّاع القرار السياسي في البلاد. و"البلوكاج" الحكومي، الذي أُشهِر في وجه رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، ما يزيد عن أربعة أشهر في 2017، بات المثال الأوضح.
لقد ظلت التعدّدية المفرطة في الأحزاب بدون مشاريع وبرامج وخلفيات إيديولوجية واضحة، في الجزء الأكبر منها، عنصرا رئيسا من النسق السياسي المغربي العام. وبالموازاة مع ذلك، بات اختراق تلك التعدّدية بما تسمى "أحزاب الإدارة"، في مقابل "الأحزاب الوطنية"، عنصرا آخر من عوامل التحكّم في المشهد السياسي العام (اتِّقاء حدوث مفاجآت دراماتيكية). أكثر من ذلك، صارت هيمنة الأحزاب "ذات المنشأ الإداري" الأكثر هيمنة، منذ أن قبِل الاشتراكي، عبد الرحمن اليوسفي، بوجود "التجمعيين الأحرار" ضمن حكومة التناوب التوافقي. لقد تغيّرت نظرة أغلبية الأحزاب الوطنية إلى الأحزاب الإدارية، ومنها "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" الذي يبدو تحوّله إلى حزب إداري، اليوم، ملحوظا أكثر من غيره. انفتاح الاتحاد الاشتراكي على "تجمّع الأحرار"، في أثناء تأليف حكومة التناوب التوافقي، شرع كل أبواب التنسيق بين الحزبين، إلى أن بتنا نرى ذوبان الأول في الثاني. لذلك، ليس من الغريب ملاحظة خيبة الاشتراكيين الكبيرة، حين لاحظوا إعراض الملياردير، عزيز أخنوش، عن إدماجهم في حكومته المرتقبة.
الالتفاف حول المشاريع والبرامج الملكية، والانكباب على إخراجها وتنفيذها، صارت غاية أي إعلان حكومي مُرتقب
مقابل تغيُّر سياسة "الاتحاد الاشتراكي" وخطابه (مثلا)، إزاء ما كان يسمّيها أحزاب الإدارة، لم تتغير الأخيرة في سلوكها السياسي قيد أنملة (استقطاب أعيان المال والقبائل، التركيز على الاستحقاقات الانتخابية بدل النضال في الساحات، غياب الخلفية السياسية لوزراء الحزب وأطره، القرب من الإدارة وتنفيذ برامجها، التحكّم القبلي في الائتلافات الحكومية، صبغ التكنوقراط المستجلبين باللون السياسي لحاجة الاستيزار، .. إلخ). لقد أضحت هذه الأحزاب الرقم الأول في المعادلة السياسية المغربية، فباستثناء حزب الاستقلال الذي ظل يحافظ على نوع من الإيقاع الانتخابي الثابت، باتت أعلى الحصائل الانتخابية بين أيدي أحزاب الإدارة. ولذلك، من الموضوعي الخشية على اندثار العمل السياسي في البلاد. ذلك أن رهْن السياسة، لدى أعيان الانتخابات ورجال الأعمال، صار يضع صُنّاع القرار السياسي الكبار في مواجهة المواطنين بشكل مباشر.
لقد صرّح الإعلامي والسياسي، المرحوم خالد الجامعي، في حوارٍ استُعيد تداوله هذه الأيام، إن "المخزن" لم يعد يقبل وجود أية شرعية للأحزاب، على أية أسس شعبية أو تاريخية. الالتفاف حول المشاريع والبرامج الملكية، والانكباب على إخراجها وتنفيذها، صارت غاية أي إعلان حكومي مُرتقب. ولذلك، يكون "العدالة والتنمية"، على الرغم من اختلافنا الجذري مع خلفياته وسياساته، آخر الضحايا الدراماتيكيين للنسق السياسي المغربي الحالي. لقد استُخلصت "وديعة" الحسن الثاني، خلال دفعتين/ ولايتين متعاقبتين، وبالتالي لم يعد في رصيدها "شيء" في القادم المنظور. خطاب "العدالة والتنمية" الذي يركّز على المراجعة الجذرية ينبئ بأن الحزب لن يعود مثلما كان، لا في خطه السياسي ولا خطابه. نكاد توقع انبثاق حزب جديد، سواء بالمراجعة الجذرية، أم بالانشقاق، أم بغيرهما؟ انتهى الكلام، مثلما قال بنكيران، في أثناء مُكابدته مسلسل "البلوكاج" الحكومي.