عصا بهاء طاهر... وسحرة فرعون
كان ذلك في 2012. لا أذكر أي يوم أو شهر، كنا معاً في مقهى عمر الخيام بحيّ الزمالك، الذي اعتاد الأستاذ بهاء طاهر الجلوس فيه مع جريدة أو صديق. سألته عن إمكانية إنضاج تجربة ديمقراطية في ظل حكم الإخوان المسلمين، فحكى: اشتعلت ثورة يوليو ونحن شباب، ولم ترُق لنا بعض قراراتها، كما لم ير بعضُنا أنّها ثورة، بل انقلاب. تظاهرنا، وكان شباب "الإخوان" تحديداً، يطاردوننا بالهراوات، بوصفنا أعداء الثورة. ما زلت أذكر وقع ضرباتهم، كما أذكر أنّه بعد عام، أو أكثر، من هذه الواقعة، كان طلاب منظمة الشباب يطاردون طلاب "الإخوان" بالهراوات نفسها، ويتهمونهم بالاتهامات نفسها. وتحوّل الإخوان المسلمون من موالين إلى ثائرين في وجه سلطةٍ تحوّلت، بدورها، في الخطاب الإخواني، من الشرف والنزاهة إلى عداء الإسلام! حاولت أن أكون متفائلاً، وقلت: يناير ليست يوليو، كما أنّ جيلنا ربما يكون مختلفا... ابتسم الأستاذ بهاء في هدوء لا يخلو من حسرة، وقال: لا، أفق يا محمد، نحن "سحرة فرعون" (في إشارة إلى وصف مرشد الإخوان محمد بديع معارضيه من الإعلاميين وغيرهم بأنّهم "سحرة فرعون").
كان بهاء طاهر، رحمه الله، صاحب مشروع روائي "كبير" أتحدّث عن الكيف، فالكمّ، هنا، لا يعني شيئاً... جماليات اللغة، وضوحها، بلاغتها، من دون حشو أو تقعّر أو استعراض، تكثيفها، معمار الرواية، أصواتها، تنوّعها، واقعيتها، انشغالها بأسئلة الإنسان المصري والعربي من ناحية، والإنسان في كلّ زمان ومكان من نواحٍ أخرى. تُخبرك نصوص بهاء طاهر عن كاتبٍ يؤمن بوحدة الجنس البشري، ما أورث أعماله بعداً حداثياً لم يقصده، وهو الذي لم يفهم معنى الحداثة أو ما قرأه من تنظيراتٍ عنها (هكذا قال)، لكنّه تمثّلها، ومثلها، إبداعاً. انحاز بهاء في رواياته إلى قيمة العدل، وانعكس ذلك على اختياراته السياسية، من دون شك. وقف "الأستاذ" ضد مشروع التوريث في عهد حسني مبارك، بشكلٍ واضح، وأيّد ثورة يناير، واحتفى بها، وراهن عليها، ولم يكتُب أو يصرّح يوما ضدها، ولم يلتزم الصمت أو الحياد المراوغ. زار ميدان التحرير، في أيام الثورة الأولى، ثلاث مرات، رغم متاعب ساقه التي لم تحمله، ثم آثر المتابعة، عن بعد، من دون التظاهر. كتب عن الثورة، وحذّر بعد رحيل مبارك من الإخوان المسلمين والجيش على السواء، وأيد حمدين صباحي، وعلل ذلك بأنّه علماني وسيحافظ على قيم الدولة المدنية. لكنّه أيد عبد الفتاح السيسي... فلماذا؟
تورّط مثقفون في تأييد الانقلاب العسكري في 2013، ثم تأييد السيسي للترشّح والحكم، (لم يدم طويلاً في حالة بهاء طاهر)، بعضهم عن وعي وسعي إلى المكاسب، والآخرون، ومنهم بهاء وأمثاله من المثقفين الحقيقيين (القليلين)، عن موقف متشائم، حد انسداد الأفق، من حكم الإخوان المسلمين، نظراً إلى خبراتٍ ومراراتٍ سابقة، وهو الموقف الذي انتهى، بعد عام من حكمهم، إلى "يقين" بأنّ "كلّ" البدائل أفضل، وأنّ إزاحتهم، بأيّ ثمن، هي "أخفّ الضررين" (التعبير الذي استخدمه شيخ الأزهر نفسه في بيان 3 يوليو 2013).
في بلادنا، يمارس الإسلاميون السياسة بشكل ديني، ويمارسها معارضوهم، من المثقفين العلمانيين، أصحاب القيمة والانحياز الحقيقي إلى العدل والحرّيات والديمقراطية، بشكل ثقافي، وتأتي النتائج في الحالتين متشابهةً، حيث تتناقض الممارسات، قصَد صاحبها أم لم يقصد، مع المنطلقات، نظراً إلى طبيعة السياسة نفسها، والتي لا تحتمل منطق عصا موسى التي تلقف ما يأفكون (من أجل الشعب!)، عصا السياسي، بالضرورة، هي عصا فرعون، (الاستثناءات شديدة الندرة)، والتجربة التاريخية تُخبرنا بأنّه لا سبيل إلى دولة بغير سياسة، كما أنّه لا سياسة بغير سياسيين، فراعنة، وطامحين، وطامعين (وأولاد ستين كلب). من هنا تأتي الديمقراطية لتنظيم الصراع، وتحجيم المطامع، ومنح المجتمع المدني، والطامعين الآخرين، فرصة مشاركة الحاكم ومنافسته وتغييره. شكراً لتجربة يناير، لأنّها منحتنا فهم ذلك كله، (ومن يدري؟) وألف رحمة ونور على بهاء طاهر، فقد أضاف ما يستحقّ.