على ضوء الحالة التونسية: لماذا تنهار الديمقراطيات الناشئة؟
يستدعي تأزّم مسار الديمقراطية في تونس استخلاص الدروس، والتأمل في العوامل التي تقطع الطريق أمام استمرار الديمقراطيات الناشئة واستقرارها. لقد شهد العالم خلال عام 2021 نجاح خمسة انقلابات على الديمقراطية في ميانمار ومالي وغينيا وتشاد والسودان، فضلاً عن محاولة انقلابية لم تنجح في النيجر. الأمر الذي دفع الأمين العام للأمم المتحدة، غوتيريش، إلى التصريح في أكتوبر/ تشرين الأول 2021 بأن العالم يمرّ بما يمكن اعتباره "وباء الانقلاب على الديمقراطية"، معتبراً أن البنية الجيوسياسية للعلاقات الدولية تتحمّل مسؤولية شلل المجتمع الدولي في مواجهة هذه الانقلابات، وما نتج عنها من تداعياتٍ إنسانية. وفي ظل هذا الواقع الدولي، مرّت القمة العالمية من أجل الديمقراطية التي عقدت برعاية الرئيس الأميركي، جو بايدن، في ديسمبر/ كانون الأول 2021، حدثا عابرا لم يكن له أي آثار تذكر في مواجهة التصاعد العالمي للسلطوية. بالتأكيد، كانت للبيئة الدولية مساهمة في شعور مهندسي هذه الانقلابات بالثقة والقدرة على إضفاء شرعية دولية وإقليمية لتحرّكاتهم ضد مؤسسات النظام الديمقراطي من دون مساءلة أو محاسبة، إلا أن جملة من العوامل الداخلية ساهمت بشكل تراكمي في سقوط تجارب التحول الديمقراطي أو تأزمها في هذه الدول وصولاً إلى تفكّكها. لقد شهد العالم في حقب مختلفة منذ نهاية القرن الثامن عشر تفككاً للديمقراطيات، وانتكاسات وجولات متعدّدة ضربت جميع مناطق العالم، بما فيها أوروبا الغربية، خصوصا في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، فقد مرت 18 دولة شهدت تحولات ديمقراطية منذ عام 1962 بحوالي 27 انهياراً لديمقراطياتها نتيجة انقلابات عسكرية أو حروب أهلية، أو انقلابات من داخل المؤسسات السياسية نفسها بمبادرة المسؤولين السياسيين المنتخبين للدولة وقيادتهم، كما جرى في تونس منذ استفراد الرئيس قيس سعيّد بالسلطة عقب قرارات يوليو/ تموز 2021، وصولاً إلى تبنّي دستور جديد للبلاد يؤسّس لحكم الفرد في أعقاب استفتاء يفتقد للشرعية.
كانت للبيئة الدولية مساهمة في شعور مهندسي هذه الانقلابات بالثقة والقدرة على إضفاء شرعية دولية وإقليمية لتحرّكاتهم ضد مؤسسات النظام الديمقراطي
بدأت الدراسات السياسية في السنوات الأخيرة تولي اهتماماً بتفسير مسبّبات تفكّك الديمقراطيات وانهيارها، بعدما كان محور تركيز هذا الحقل منذ الثمانينيات من القرن العشرين ينصبّ على ظروف التحوّل صوب الديمقراطية. من أوائل تلك الدراسات التي عنيت بدراسة تفكّك الديمقراطيات كان إسهام خوان لينز وألفريد ستيبان الصادر عام 1978. وقد كان أحد الدوافع وراء هذا العمل محاولة فهم انتشار الانقلابات العسكرية، وانهيار الديمقراطية الليبرالية في دول أميركا اللاتينية في الستينيات والسبعينيات. عُنيت هذه الدراسة بسلوك النخب السياسية، واختياراتها الاستراتيجية بوصفها محدّدا أساسيا لاستقرار النظام الديمقراطي أو انهياره. وطبقاً لعزمي بشارة في مؤلفه القيّم "الانتقال الديمقراطي وإشكالياته .." (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، فانقلابات عسكرية كثيرة جرت في العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين حدثت "بعد انشقاقات في النخبة المدنية وعدم القدرة على إدارة التوافق أو إجماع أو قبول حكم الأغلبية بين النخب المدنية العربية". وقد عُنيت دراسات أخرى بعوامل بنيوية، تتمثل في أثر الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، والتفاوت الطبقي والاجتماعي باعتبارها أسبابا محتملة لانهيار الديمقراطيات وصعود الانقلابات العسكرية، أو الاتجاهات اليمينية الشعوبية المتطرّفة المعادية لمؤسّسات الديمقراطية الليبرالية وقيمها. وكان الفيلسوف اليوناني أرسطو من أوائل من حذّروا في القرن الرابع قبل الميلاد في مؤلفه "السياسة" من آثار الاستقطاب الطبقي والتفاوت الاجتماعي الحادّ على سلامة الديمقراطية اليونانية القديمة واستقرارها.
صمدت المؤسسات الديمقراطية، وجدّدت من نفسها ومن أدائها الاقتصادي والاجتماعي، ووسعت تدريجياً من نطاق الحقوق المكفول فيها، ليشمل الحقوق الاجتماعية
وبحسب كتاب صدر أخيرا عن دار نشر روتليدج في المملكة المتحدة، "سياسة تفكك الديمقراطيات" لكاتبه جانجشينج باو، فإن تفكّك الديمقراطيات يكون عادة نتاج تفاعل بين ثلاثة متغيرات؛ تفاقم الانقسامات المجتمعية، والتي تتحول إلى انقسامات سياسية يتم التجييش والتعبئة السياسية على أساسها. ويمكن أن تأخذ هذه الانقسامات أنماطاً طبقية أو اقتصادية أو دينية أو إثنية أو مناطقية. يتمثل المتغير الثاني في هشاشة المؤسسات السياسية القائمة، وعدم قدرتها على احتواء مثل هذه الانقسامات السياسية أو التخفيف منها، أو مواجهة الأزمات السياسية والاجتماعية الحادّة التي يواجهها النظام السياسي. ويتمثل المتغير الثالث في طبيعة اختيارات (وسلوك) النخب السياسية، والتي قد تحمي النظام الديمقراطي، أو تسهل من تفكّكه. عبر دراسة تاريخية معمّقة للتحولات السياسية في كلٍّ من ألمانيا ونيجيريا وتشيلي والهند، يستخلص الباحث أن من بين مسبّبات تفكّك الديمقراطيات تصاعد حدّة الانقسامات السياسية والمجتمعية في ظل مؤسّسات سياسية هشّة غير قادرة على احتواء هذه الانقسامات وإدارتها أو إدارة أزمات المجتمع بشكل فعّال، بل تعمق منها. أخذت هذه الانقسامات بعداً اقتصادياً وطبقياً في حالة ألمانيا في العشرينيات والثلاثينيات، وتشيلي في بداية السبعينيات، واستقطاباً عرقياً في نيجيريا في الستينيات من القرن العشرين. وقد اتسمت المؤسّسات السياسية في هذه التجارب الثلاث بتفتت التمثيل الحزبي، وضعف سلطة الدولة المركزية، وعدم فعالية مؤسّسات الدولة، ما مهد الطريق أمام سقوط التجارب الديمقراطية في البلدان الثلاثة.
يتجاوز التفسير الذي يقدمه جانجشينج باو في كتابه التركيز الأحادي على فشل سلوك النخب السياسية وتكتيكاتها، أو فقر الواقع الاجتماعي والاقتصادي وتأزمه باعتبارها المسؤولة عن تفكك الديمقراطيات الناشئة، فسلوك النخب واستراتيجياتها تتأثر عادة بطبيعة الترتيبات المؤسّسية والدستورية القائمة، والتي جرى تأسيسها والاتفاق عليها في المرحلة الانتقالية، فمثلاً اختيار تونس نظام انتخاب التمثيل النسبي فتح الباب أمام تفتّت المشهدين، الحزبي والبرلماني، وعدم قدرة السلطة التشريعية على القيام بوظائفها الرقابية والتشريعية بشكلٍ فعّال. كما أن تطبيق النظام شبه الرئاسي في ظل دستور 2014 مهّد لصراع سياسي مستمر بين الحكومة المستندة للبرلمان والرئيس المنتخب شعبياً. من ناحية أخرى، التأخر في استحداث مؤسسات دستورية هامة مثل المحكمة الدستورية العليا عزّز من الانقسام بين الجماعات السياسية المختلفة في غياب قواعد حاكمة تنظم العلاقة السياسية والدستورية في ما بينها. وفي هذا السياق، يرى جانجشينج باو أنه لا يكفي لواضعي دساتير ما بعد السلطوية الانشغال فقط بتوفر ضمانات الفصل بين السلطات، وصياغة قواعد تداول السلطة مع إهمال تقوية السلطة السياسية للقيام بوظائفها، وبناء قدرات الدولة ومؤسّساتها. وبحسب الكاتب، "الديمقراطية التي تفتقد دولة فعالة وذات قدرات تكون أمامها فرص كبيرة للفشل، خصوصا في ظل أزمات اقتصادية وسياسية حادّة".
استقرار الديمقراطية واستمرارها بعد تأسيسها ليسا معطى بديهياً، بل يتطلبان وعيا ومسؤولية سياسية وقيمية من النخب
التفاوتات الاجتماعية، وضعف التنمية الاقتصادية، وهشاشة حماية الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وعلى الرغم من اعتبارها مخاطر تهدّد سلامة النظام الديمقراطي واستقراره على المدى الطويل، إلا أنها لا تؤدّي حتماً إلى تفكك النظام الديمقراطي، إذا ما كانت هناك مؤسسات دستورية وسياسية راسخة وفعالة، ونخب قادرة على التعامل مع هذه التفاوتات، وما ينتج عنها من أزمات سياسية، فقد كان التفاوت الاجتماعي الحادّ حاضراً في سياق تطور الديمقراطية في دول أوروبا الغربية في القرن التاسع عشر، وتشيلي بعد انتقالها إلى الديمقراطية في التسعينيات من القرن العشرين، والهند في آسيا، وبوتسوانا في أفريقيا. ومع ذلك، صمدت المؤسسات الديمقراطية، وجدّدت من نفسها ومن أدائها الاقتصادي والاجتماعي، ووسعت تدريجياً من نطاق الحقوق المكفول فيها، ليشمل الحقوق الاجتماعية. وعلى الرغم من التهديد الذي تشكله التيارات الشعبوية للديمقراطيات الليبرالية الغربية في الوقت الحالي، فإن رسوخ المؤسسات السياسية، ومسؤولية النخب السياسية، ومؤسّسات المجتمع المدني، مكّنت هذه الديمقراطيات من استمرار التصدّي لهذا الخطر، والتقليل من آثاره.
يُخبرنا التاريخ بأن الديمقراطيات في مساراتها تواجه أزماتٍ وعثراتٍ قد تطيحها كلية أو قد تتمكّن من صلابة مؤسساتها، واستراتيجيات نخبها في حمايتها وتجديد مشروعها السياسي والاجتماعي. إن استقرار الديمقراطية واستمرارها بعد تأسيسها ليسا معطى بديهياً، بل يتطلبان وعيا ومسؤولية سياسية وقيمية من النخب السياسية المنخرطة في مختلف مراحل التحوّل الديمقراطي. لم يتناول كتاب جانجشينج باو التحولات السياسية في مرحلة ما بعد الربيع العربي، لكن نموذجه التفسيري المقترح للتفاعل بين الانقسامات المجتمعية والسياسية، وهشاشة المؤسسات السياسية والدستورية، وسوء تقديرات النخب السياسية واختياراتها في المراحل التأسيسية، والتي تعدّ الأكثر خطورة، في الانتقال الديمقراطي يصلح مدخلا لفهم المسارات الدرامية التي أخذتها تجارب التحولات الديمقراطية العربية في مصر وتونس.