عمالقة غالباً ... عمالقة دائماً
نشر أحد الأصدقاء صورةً لعمّال مهرة يتدلّون بالحبال من ناطحة سحاب، ويسلخون صورةً من جسم الناطحة، بعد انتهاء مناسك المونديال وزينته. الصورة للاعب كرة قدم، العمّال يظهرون مثل دبابير تلسع اللاعب العملاق الراكض بالكرة.
بدا المشهد وكأنه من أفلام الفانتازيا مثل فيلم "كينغ كونغ"، أو من رواية "رحلات جيلفر" للروائي جوناثان سويفت، وهو قسّ أيرلندي كتب في أدب الرحلات ساخراً على ما تقول الموسوعات، والسخرية الإنكليزية ليست مثل السخرية العربية والتركية التي تسخر بالأقوال وبالأعمال، ولعلّ الكاتب قصد السخرية برحلات ألف ليلة وليلة.
وفي إحدى مغامرات السندباد التاجر يقع على جزيرة، فإذا هي حوت نائم، وقد عمد صنّاع مسلسل سندباد الياباني الشهير إلى مزج قصص خيالية كثيرة شرقية وغربية في نص واحد، فقبسوا من جملة ما قبسوا قصة السيكلوب الإغريقية، وهي مشابهة لقصة الجسّاسة والأعور الدجّال في رواية تميم الداري، ونجد في المرويات العربية قصة العملاق عوج بن عناق، وكان يشوي الحيتان على جمر الشمس.
وثّق أهل جزيرة "ليليبوت" الأقزام، العملاق غوليفر، الذي سقط من السفينة بعد عاصفة، بالأغلال، وجرى تجنيدُه في معركةٍ ضد مدينة أقزام مجاورة، اسمها بليفوسكو، وسبب الخلاف بين القريتين عجيبٌ، وهو النعال، فأهل ليليبوت ينتعلون نعالاً واطئة الكعب. أما أهل بليوفسكو، فينتعلون نعالاً عالية الكعاب، وبينهم خلاف عقائدي وأيديولوجي مثل الخلاف هو النعال، وهو طريقة كسر البيض لصناعة العجّة (هذه من تخيّلاتي)، فالمدينة الأولى تكسر البيض من قبتها الغليظة، والثانية من قبتها الرقيقة.
وكان الصديق في السطر الأول من هذا المقال قد نزّل على صفحته صورة لعربي من دبي بزيّه الفاخر، يمشي تيّاهًا، وخلفه عملاقٌ آلي مثل عمالقة "الأفاتار" و"جاكس" يجتهد في اللحاق به بتعويذة برنامج إلكتروني.
رؤساؤنا عمالقة بقوة السلطة العمومية والمُلك، وإن كانوا أمثالنا في الهيئة والحجم، لكنهم يكبروننا بالأفعال والأثر. وفي مفارقات التضخيم والتصغير، أنَّ أعضاء الفرقة الكورية المطربة التي وصلت إلى الرياض صغار الحجوم، نحيلون، لكنهم عمالقة في العفاف والعشق والطرب، ومثلهم الرؤساء الذين تعلّق صورهم العملاقة في الميادين العربية، ويخدمهم ملايين الموظفين بالسهر والحمّى، وهم يركبون طائرات عملاقة لا تحمل سوى راكب وحيد، لكنهم لا يلبثون أن يخسّوا في الحجم والمنزلة ويصبحوا أقزاماً عندما يحطّون في ديار الفرنجة، أو عندما يفقدون خاتم الملك. وهناك حروب ظاهرة وخفيّة بين معظم الدول العربية، ليس آخرها الشرر الإعلامي المتطاير بين الجزائر والمغرب، بخلافاتٍ تشبه نزاعات ليليبوت وبليفوسكو حول البيضة والنعل. ينزح غوليفر بجلده من معارك الأقزام السخيفة، ويقع على جزيرة العمالقة، ويجري استخدامه بسبب صغر حجمه في مشاهد السيرك المضحك.
ويمكن أن نتذكّر أنّ المصريين لم يجدوا ما يفثأ مراجل الغضب في صدورهم سوى لقاء وحيد في برنامج "ستون دقيقة"، وكان الرئيس المصري العملاق قد أبدى غيرةً، ليس على الجزيرتين الثمينتين اللتين تنازل عنهما، والنيل الذي فرط فيه، وإنما على الرغيف، الذي انقبض وصغر كثيرًا مع أن المعادن والأطعمة تتمدد بالحرارة. فهناك أمران يجعلان المرء عملاقاً أو قزماً: الكلمة والرغيف، وقد حُرمت منهما شعوب عربية عدة. وقد تمدّد الزعيم العربي الذي احتكر الرغيف والكلام لنفسه فكبر كثيرا، حتى صار "كينغ كونغ".
كان السوري ولا يزال منذ الحركة "التشليحية" المباركة يقضي ربع يومه أمام باب الفرن، مع أن سورية تفيض بأفضل أنواع القمح، حتى صغر بالغضب المكبوت. الغضب جمرة إن لم تحرق المغضوب عليه أحرقت الغضبان.
خرج الرئيس السوري، شكري القوتلي، من فندق بارون بحلب، بعد فشل اجتماعه بالكتلة الوطنية لتشكيل الحكومة، فوجد متظاهرين يحتجّون على قمع الحريات، وقد تقدّم أحدُهم وأمسك بتلابيب الرئيس صارخاً: "شكري بك بدنا حرية". فقال الرئيس: "يا ابني رح تخنق رئيس الجمهورية... شو بدّك حرية أكتر من هيك".
ولم يجرِ تغريم المواطن الحلبي كغرامة قاذف الملك تشارلز بالبيض، أو يحبس كحبسة صافع الرئيس الفرنسي!
للذكرى، الطغاة يخافون الذكريات.