عمر المختار وغزّة واليسار العربي
ماذا لو كان عمر المختار حيّاً يقود جهاده ضد الطليان؟ أو لاعتبارات عديدة يختار جبهات أخرى؟ ندرك تماماً أنه سؤال عبثي لا معنى له إذا ما شددناه إلى منطق التاريخ وفلسفته "الحتمية" التي تجعله خطّاً يتقدّم في اندثار آني لجوهره، فمادته آيلةٌ لا محالة إلى التبخّر. ذلك جوهر فرادة التاريخ، وقد قال ماركس إن التاريخ لا يعيد نفسه وإن فعل ففي شكل مهزلة، متندّراً بما يفيد الاستحالة أو توقعاً منه للمهازل التاريخية المتكرّرة وما أكثرها، فلا شيء تاريخياً إلا بما ثبّتناه نحن في جوفه، ومنحناه من المعاني (وقائع، أحداث...) ما به نخلّد قراءتنا له وتأثيثاً لذاكرتنا أكثر من تخليد التاريخ ذاته. أما العبث في ذلك كله فهو أن التاريخ يمضي ويضني بعضهم، ويفتك بآخرين، وهو غير عابئ بما نقرأه في "صفحاته"، وما نطلق عليه من أحكامٍ لا يدرك معناها لأننا نحن فقط نصنع معنى للتاريخ هذا. لا يوجد تاريخٌ أصلاً، إنما هي سردياتُنا تحشو ذاكرتنا بما ننتقي من أحداث نتوهّم أن لها معنى، والحال أننا نحن جمعناها ونظّمناها، حتى تستقرّ أقدامنا على وجودٍ يجنّبنا دوار الحركة الساقطة، ولولا التاريخ هذا لوقعنا في الثقب الأسود لزمنٍ سديميٍّ سحيق.
ما الذي دعاني إلى استحضار الشيخ عمر المختار في مثل هذه السياقات التي تنزف فيها ليبيا ممزقة؟ لن تكون لليبيا علاقة بهذه الدعوة المستحيلة، لكن "لو استجاب" لنا التاريخ، وقبل الشيخ عمر المختار هذه الدعوة، وعاد إلينا بكل تلك الهيبة الجليلة وعباءته "الجرد الليبي" وصمته المهيب، وقاد جهاده زاهداً في صخبنا ومعاركنا الصغيرة، وحتى الكبيرة التي نخوضها تحت رايات صغيرة، لحاربه قومه قبل أن يحاربه عدوّه.
عديدون من أبطال التاريخ ماتوا قبل أن يرووا تاريخهم. صمتوا تاركين لنا المجال حرّاً حتى ينطق التاريخ بما نشاء
يؤكد كل الذين تناولوا تاريخ المقاومة الباسلة التي خاضها الشيخ الجليل أن هناك زوايا عتمة في كل تلك المعارك، مثل خيانات أبناء الدم، وعدة أحداث نحيلها إلى الهامش، حيث تغدو تفاصيل صغيرة "بلا معنى" ويعيد تصغيرها من هم خارجها. ولا شك أن تلك أوالية تهوين نفسي حين نسقط المعنى... لا ندري لو سألنا الشيخ ذاته، أو سألنا معه أيضاً باتريس لومومبا أو صدّام حسين أو تشي غيفارا عن "تلك التفاصيل الصغيرة" التي قادتهم إلى ذلك القدر المحتوم لكان لهم رأي آخر. ما يشفع لنا التقول على التاريخ إنّ عديدين من أبطاله ماتوا قبل أن يرووا تاريخهم. صمتوا تاركين لنا المجال حرّاً حتى ينطق التاريخ بما نشاء.
سيخوض الشيخ عمر المختار جهاده، وسيختار الانضمام إلى جبهة غزّة، وقد تركها عند وفاته حرّة، لم تطاولها بعد يد الصهاينة... سيستوعب الشيخ كل التطورات المذهلة التي جرت بعد غيبته الصغرى، وسيؤجل معركته مع جبهاتٍ أخرى، وهي كثيرة، خصوصاً أن ليبيا التي جاهد من أجل تحريرها قد استقلت، وقد انقسمت، ويا للصدمة، في السنوات الأخيرة، إلى ليبيتين. يتجنّب الشيخ الخوض في التفاصيل الدقيقة، فالمعركة البارزة التي لا مخيّمات اصطفاف داخلي فيها، أو كهذا يدرك حدسا، وللوهلة الأولى، هي معركة غزّة التي ستضعه في مواجهة مباشرة مع الكيان الصهيوني الغاصب.
يعتمد اليسار العربي على سرديةٍ ترى أن خفوت اليسار العربي ناجم عن غطرسة ثالوث الرجعية العربية والإمبريالية والاحتلال
لا يأبه الشيخ عمر المختار بكل الصور النمطية التي أطلقها عليه خصومه، ولكنه سيُدرك تماما أن مخيّم أنصاره من اليسار العربي سيرميه أضعاف ما رماه عليه خصومه، فثمّة جدل يجري داخل طيف كبير من هذا اليسار الذي يعتبر أن حركات التحرّر الوطني يسارية بالضرورة. ولذا يتخذون حاليا موقفا سلبيا من حركة حماس، لا يجرؤون على قوله، ويعمدون إلى تلبيس الكلام حين يحيّون المقاومة، ويجري تعويم المعركة الحالية بين محتلٍّ ومقاومة، ولا يجرُؤ هؤلاء على مجرّد تسمية "حماس"، حتى ولو اعتبرناها فصيلاً صغيراً من فصائل المقاومة.
يعتمد اليسار العربي، في مجمله، على سرديةٍ ترى أن خفوت اليسار العربي، واليسار الفلسطيني تحديداً، ناجم عن غطرسة ثالوث الرجعية العربية والإمبريالية والاحتلال. ويؤدّي هذا العمى الأيديولوجي إلى قراءة تجعل من "حماس" إحدى نتائج ماكينة الشر ثلاثية الرؤوس، وكل هذا النضال هو تمويه وجرٌّ إلى معركة أخرى على اليسار أن يقودها. تستدرجنا هذه القراءة المخاتلة إلى اعتبار الاحتلال والرجعية والإمبريالية أفضل من "حماس". وأقصى ما يتنازل عنه اليسار اعتبار هذه المعركة تجري بين رجعيات. والأفضل أن ننتظر نهايتها التي ستكون حتماً هزيمة "حماس" باعتبارها ممثلة الرجعية الدينية. وهنا لسنا بعيدين عن "الجد" ماركس، حين زار الجزائر سنة 1882 طلبا للاستشفاء، وكانت فرنسا تدكّها، وتسحقها، فلم يرَ من الجزائر سوى شعب من اللصوص الأفظاظ وقطّاع طرق، يحق لفرنسا أن تجلب له الحضارة، فهي بلد يتم تعميره وإدراجه في ركب الحداثة. ولا شك أن أحفاده من اليسار العربي، إلا من رحم ربّك، ما زال يعتقد أن ما يُفسد معركة غزّة هذه، ويمنع الاصطفاف، أن "حماس" تقودها، وهي جماعة لا تختلف عن تلك الصورة التي رسمها ماركس لثوار الجزائر. لقد عبر أنجلز أيضا عن ابتهاجه العميق حين أسر الأمير عبد القادر الجزائري. ولن ننسى ذلك التمجيد والغزل الذي كتبه ماركس عن الجنرال الفرنسي السفاح بيغو.
خشخشة في أوراق التاريخ المتطايرة في صحرائنا القاحلة تُنبئنا أنّ التاريخ لن يعود... تجنباً للمهزلة
يخفي اليسار العربي ما يشتهي ولا يقوله علناً إلا في أوساط ضيّقة: لو اختفت "حماس" لغدت المعركة أكثر صفاء. لا يمكن أخلاقياً أن نزيل نحن "حماس" ولا يستطيع اليسار الهزيل حالياً أن يزيلها، وهو يرى اختفاء اليسار الفلسطيني الذي قاد هذه المعركة في السبعينيات، باستثناء أشباحٍ من كل الفصائل اليسارية.
ثمّة يسار عربي في أكثر من دولة ليس له القدرة الفكرية على الذكاء، ولا القدرة هيكلياً على المواجهة، ولا يريد لغيره أن يواجه، أن يقاوم، وثمّة يسار عربي آخر يرتّب المعارك ضمن سلم أولويات معينة يجعل من مقاومته الرجعية أم المعارك، وثمّة يسارٌ فكريٌّ متكلسٌ ينام في كهف الوضعية والحداثة من دون أن يجتهد في قراءة العالم من خارج هذه المنافذ الخانقة. يسار لاهوت التحرّر في أميركا اللاتينية لا نظير له في تربتنا الفكرية العربية.
في انتظار هذا اليسار العقلاني، المتنوّر الوطني، الحداثي، الإنساني، فليذهب الجميع إلى الجحيم، لأنّها ليست المعركة التي ينتظر، ولتذهب "حماس" وربّها ليقاتلا... هكذا يفكر طيف واسع من اليسار. لكن، ثمة خشخشة في أوراق التاريخ المتطايرة في صحرائنا القاحلة تُنبئنا أنّ التاريخ لن يعود... تجنباً للمهزلة.