عملية عيلي تخلط الأوراق وتظهر ثلاثة أنماط مقاومة
خلطت عملية مستعمرة عيلي يوم الثلاثاء، 19 يونيو/ حزيران 2023، التي أدّت إلى مقتل أربعة إسرائيليين، قرب مستوطنة بين رام الله ونابلس، أوراقا كثيرة، ويمكن أن يحدُث تغيّر في مسار عدد من الأحداث، خصوصاً إذا اتّضح أن العملية مقدّمة أو ترجمةٍ لنهج جديد. قبل العملية، كان واضحاً أنّ مشهد المقاومة، وخصوصاً فكرة الكتائب الجديدة (المجموعات المسلحة التي ظهرت العام الفائت) تشهد تحولات، وتأكّدت أخيرا هذه التحوّلات. ويمكن الحديث عن ثلاثة أنماط أساسية للعمل الفدائي في فلسطين حالياً، (العسكرة، والمقاومة الحركية، والتنظيم المركزي)، الأول محوره عناصر ومجموعات الجهاد الإسلامي، وهو يتركّز في شمال الضفة الغربية، وخصوصاً جنين، وهناك مؤشّرات إلى نوع من اللبننة، أي استلهام نمط المقاومة اللبنانية. والثاني، نمط عمل المجموعات ذات الجذور والروح "الفتحاوية"، وتنتشر من رام الله إلى جنين مروراً بنابلس، ومخيم بلاطة، وطولكرم، ويمكن تسميتها بالنمط الحركي، والنمط الثالث، هو النهج الحمساوي (حركة حماس)، حيث التنظيم المركزي. وفي الأثناء، بينما كانت القوات الإسرائيلية تعدّ لعمليّة واسعة في شمال الضفة، قد تخلط العملية الأوراق. إلى ذلك يمكن الحديث عن أن طبيعة العلاقة والسياسات داخل حركة حماس ستخضع لاختبار، أما القيادة السياسية الرسمية الفلسطينية، فتجد نفسها مجدّداً من دون قدرةٍ على الإمساك بزمام الأمور ميدانياً.
تعرّضت كتيبة عرين الأسود في نابلس، والتي بدت، في وقت من الأوقات، باعتبارها الأكثر حضوراً في المقاومة، لضرباتٍ موجعة، يضاف إليها قرار أفراد في الكتيبة بالتغيير في طريقة أدائهم والعودة إلى الخلف قليلاً للتفكير، إلى درجة اللجوء إلى مقرّات الأجهزة الأمنية الفلسطينية، أو الانتظام في العمل في صفوف هذه الأجهزة، خروجاً من حالة الحصار والملاحقة، ولإعادة تنظيم الصفوف. وأمام المعارك باهظة الثمن التي وجدت المجموعات نفسها تواجهها، باتت تميل إلى نمط لامركزي في التنظيم، وتشجيع فكرة "الذئاب المنفردة".
كانت الحسابات الإسرائيلية، قبل عملية مخيم جنين، الأحد الفائت، قد ذكرت أنّ مجموعات عرين الأسود ضعفت كثيراً
في 22 فبراير/ شباط الفائت (2023)، على سبيل المثال، وبعد استشهاد عشرة فدائيين ومواطنين في يوم واحد، أصدرت كتيبة عرين الأسود بياناً، تضمّن، بين سطوره، تحوّلاً في البُنية التنظيمية. أول تحوّل هو الاتجاه نحو اللامركزية، وجاء في البيان "باب الانتساب للجهاد مع مجموعات عرين الأسود مفتوح، والدخول في معارك الشرف لا يحتاج سوى عقد العزائم"، وهو ما يشي بنوع من تحويل المجموعات إلى عنوانٍ عريض، وليس إلى تنظيم موحّد. وجاء في البيان الذي نشر على تطبيق تلغرام ما يوضح التوجه الثاني (بعد اللامركزية)، وهو تشجيع المجموعات الصغيرة، والعمليات الفردية، فقالت المجموعة "فيا أسود الله تحرّكوا، يا ذئابنا المنفردة حان الوقت لنعيش بكرامة او نلتحق بركب الشهداء، إياكم والهزيمة...". وفي 7 مارس/ آذار، جاء في بيان ثان للمجموعات "سنثأر كالعادة وسيثأر مخيم جنين وسيثأر العرين ويثأر ذئابنا المنفردين أبناء شعبنا وكما وعدناكم"، وفي 12 مارس جاء في بيان "سلسلة عمليات الثأر مستمرة وما عليكم الآن إلا أن تستعدّوا لموجة جديدة من عملياتنا بتوقيع من ذئابنا المنفردة في عرين الأسود". وفي 13 يونيو/ حزيران، أشارت المجموعة بوضوح إلى أنّ المقاومة الآن تتكون من "كل الفصائل" و"الذئاب المنفردة". وكانت الحسابات الإسرائيلية، قبل عملية مخيم جنين، يوم الأحد الفائت، قد ذكرت أنّ مجموعات عرين الأسود ضعفت كثيراً، والمطلوب حاليا التركيز على مخيم جنين، وما بقي من مجموعات.
رغم الثمن المرتفع جداً لوجود المقاتلين بين السُكّان، تتسع العسكرة في مخيم جنين، بإصرار من مجموعات سرايا القدس
وجزء من مجموعات عرين الأسود، كما هو معروف، قريب تاريخياً، أي مرتبط بإرث حركة فتح النضالي، وبروحها السياسية والاجتماعية، القائمة على التنظيم الحركي الفضفاض، اللامركزي، والمجموعات الفتحاوية لا تعمل دائماً بالطريقة نفسها، خصوصاً أن قياداتها ميدانية تتأثّر بمحيطها.
إلى ذلك، رغم الثمن المرتفع جداً لوجود المقاتلين بين السُكّان، تتسع العسكرة في مخيم جنين، بإصرار من مجموعات سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، على التمترس في المخيم، ومحاولة التوسّع خارجاً، ومحاولة مدّ خيوط علاقة مع باقي المجموعات المسلّحة، خصوصاً "العرينية" وكتائب المناطق الأخرى. وقد اتّضح في مواجهة الأحد الفائت، أن كتيبة جنين أصبحت أكثر التصاقاً واقتراباً من "سرايا القدس"، أي أنّ السرايا هي جوهر الكتيبة. بينما برز استخدام كتائب شهداء الأقصى، وهو الاسم الذي تعمل تحته المجموعات ذات الهويّة الفتحاوية، منذ انتفاضة الأقصى في مطلع هذا القرن. اسم "لواء الشهداء" اسم محدّد في جنين، ما يفيد أيضاً بأن مخيم جنين يعود إلى تبنّي شكل التنظيمات الفصائلية، على ما بين هذه الفصائل من وحدة عمل ميداني. استخدام عبوات ناسفة في التصدّي للهجوم الخارجي، والعسكرة المتزايدة في المخيم، تشير إلى تبنّي نمط قريب من أداء حزب الله في جنوب لبنان.
وتمزج حركة حماس في تعاملها مع ظاهرة الفصائل الجديدة في الضفة الغربية بين موقفين: الأول، الانخراط بأقل قدر ممكن داخل هذه المجموعات، حفاظاً على نمط "التنظيم السرّي المركزي"، فرغم أن فكرة قيام شبابٍ من "حماس" بعمليات بمبادرة ذاتية محلية من دون توجيه من قيادة، أمر كان موجود دائماً، إلا أنّ "حماس" في الضفة الغربية، ولأسبابٍ لها علاقة بالتوتر مع الأمن الفلسطيني، الذي يخشى تكرار السيناريو "الانقلابي" الذي حدَث في غزّة، أو لأن طبيعة وجود الاحتلال تبتعد عن العلنية وتحافظ على السرّية. كما أنّ الحركة تحرص على درجةٍ ما من المركزية التي لا توجد فيها اجتهاداتٌ ميدانيةٌ وسياسيةٌ كثيرة. الموقف الثاني، الذي تبنّته "حماس" عدا عدم الانخراط الواسع مع المجموعات الجديدة، تشجيع المجموعات وإظهار التأييد لها، لا بل البحث عن أي دلائل على أنّ هذه المجموعات تستلهم نهج "حماس". ويتّضح هذا، على سبيل المثال، في الأغاني التي أطلقتها أوساط "حماس"، وتريد توضيح تأثر شباب العرين برمزية محمد ضيف، الاسم المتداول للقيادة العسكرية الحمساوية في غزة. وقد أعلنت "حماس" أنّ منفذي عملية عيلي من شباب حركة حماس، وجناحها العسكري كتائب عز الدين القسّام، ويضاف هذا إلى عملياتٍ حدثت، أخيرا، يعتقد أن خلايا شباب "حماس" خلفها.
يتّضح يومياً أن السلطة الفلسطينية، ومنظمة التحرير، تفقدان، بشكل متزايد، القدرة على التأثير الفاعل في توجيه الأحداث
توضح عملية عيلي، وقبلها مواجهة مخيم جنين، أنّ خطّة إسرائيل تنفيذ عملية واسعة في جنين ليست سهلة، فحتى لو كانت إسرائيل مستعدّة لدفع ثمن اقتحام مخيم جنين، فإنّ وجود خلايا وأفراد مستعدين للتصعيد خارج جنين، يوضح أنّ فكرة العملية الواسعة ليست بالسهولة التي يتخيّلها بعض الساسة الإسرائيليين. ويحدُث حاليا، كما تدلّ الصحف الإسرائيلية، جدل بين المستوى السياسي الذي يريد عمليةً واسعةً والأجهزة الأمنية التي تريد العمل بحساباتٍ أكثر حذراً.
من جهة ثانية، كرّست عملية عيلي وجود أنماط المقاومة الثلاثة: العسكرة، مخيم جنين والعسكرة شبه النظامية. الحركي الذي تشكله عرين الأسود والمجموعات والعناصر المنفردة خصوصاً ذات الهويّة الفتحاوية. نمط التنظيم المركزي الذي تفضلّه "حماس".
ثالثاً، تدخل ترتيبات الوضع في غزة حاليا اختباراً، فترتيبات الهدوء مقابل تقليل نسبي في شدّة الحصار، التي تسود العلاقة بين إسرائيل و"حماس"، قد تخضع لاختبار حقيقي، إذا اتّضح دور قيادات مركزية، في الشتات، في عمليات "حماس" الأخيرة، وهذا قد يضع "حماس" نفسها أمام أسئلة صعبة.
رابعاً، يتّضح يومياً أن السلطة الفلسطينية، ومنظمة التحرير، تفقدان، بشكل متزايد، القدرة على التأثير الفاعل في توجيه الأحداث. وأبدا لا يعني غياب عملية سياسية، وعدم فعالية المواقف العربية والدولية في فرض عملية سياسية، أن الوضع مستقرٌّ أو قابل للانتظار.