عندما يرفّ جفن الديكتاتوريات
خلال أسبوع واحد، وبشكل متزامن تقريبا، قرّرت كل من حكومتي الصين وإيران التراجع أمام موجة الاحتجاجات التي يشهدها البلدان، مرسلة إشارات بشأن مخاوف لديهما من إمكانية توسعها وانتشارها. ففي الصين قرّرت الحكومة، على غير عادتها، الرضوخ للضغط الشعبي وتخفيف إجراءات الحجر المتصلة بسياسة "صفر كوفيد"، المتّبعة منذ انطلاق الوباء، وذلك بعد أن ضاق الناس ذرعا بتداعياتها في حياتهم ومعيشتهم، فخرجوا في تظاهراتٍ غير مألوفةٍ في بلد يحكمه نظام شمولي لا يتسامح مع أيٍّ من مظاهر الاعتراض والمعارضة. اللافت أن المحتجين أطلقوا شعاراتٍ سياسيةً تطالب برحيل الرئيس شي جين بينغ، الذي حصل توا على تفويضٍ بولاية رئاسية ثالثة من خمس سنوات من المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، وهو أمرٌ لا شك أنه مثّل صدمة للعارفين بصرامة القبضة الأمنية التي يخضع لها المجتمع الصيني الأكثر عرضة للمراقبة والتدقيق في العالم. أما في إيران فقد قرّر النظام، بعد نحو ثلاثة أشهر من اندلاع أطول احتجاجات تشهدها البلاد منذ عام 1979، وسقط خلالها نحو 300 قتيل، اتخاذ خطوةٍ استرضائيةٍ نحو المحتجين، فقرّر حلّ "شرطة الأخلاق" المتهمة باعتقال الفتاة مهسا أميني وقتلها على خلفية عدم ارتدائها الحجاب بشكل مناسب، الأهم أن النظام يدرس إمكانية إلغاء قانون فرض الحجاب وجعل مسألة ارتدائه من عدمه شأنًا خاصًا. ولا يعدّ هذا التنازل أمرًا هينا لدى نظام يرى في الحجاب رمزا من رموز شرعيته وقبوله مجتمعيًا وجزءًا من أيديولوجيته ومنظومته العقدية.
في الأحوال العادية، تميل أكثر نظم الحكم الاستبدادية إلى التصلّب والمقاومة في مواجهة غضبة شعوبها، اعتقادا منها أن أي تنازلات تقدمها، مهما كانت صغيرة ومحدودة، تعطي انطباعا بالضعف لدى الخصم (الشعوب في هذه الحالة) وتدفعها إلى طلب المزيد، وصولا إلى ما لا تستطيعه، وهو ترك السلطة. هذا ما فعلته نظم الحكم العربية التي واجهت ثورة شعوبها خلال العقد الفائت، وعندما اقتنع بعضها بالحاجة إلى تقديم تنازلاتٍ كان الوقت قد تأخر على أية إصلاحات، لكن نظما أخرى قد تختار تقديم تنازلاتٍ مرحلية – تكتيكية، هدفها الاحتواء وامتصاص غضبة الجماهير، أو استنزافها وارهاقها بالمماطلة والتسويف، لا تلبث بعدها أن تعود إلى سيرتها الأولى. وهذا لا يمنع طبعا وجود نظم حكم مستبدّة قد تقتنع فعلًا بعدم قدرتها على الاستمرار لأسبابٍ مختلفة، فتقدم على التغيير، كما حصل في جنوب افريقيا في عهد دو كليرك، أو بولندا في نهاية العهد الشيوعي، لكن ليس هذا النوع الذي نتعامل معه هنا.
ورغم أن هناك عوامل مختلفة تحدد طريقة استجابة نظم الحكم الاستبدادية لغضبة شعوبها، مثل مدى اتفاق نخب الحكم أو انقسامها في التعامل معها، وموقف المؤسسة العسكرية خصوصا منها، وقدرة قوى الاحتجاج على الحشد والصمود في الشارع، إلا أن أهمها يبقى موقف الخارج. ولأن قيام ثورة أو احتجاجات يعني بدهيًا أن النظام بات يفتقد شرعية داخلية للحكم من هنا يصبح جزءا مهما من سلوكه، محدّدا بعوامل خارجية. والواقع أن النظم الاستبدادية المتمرّسة لا تخشى غضبة شعوبها إلا إذا كانت علاقاتها الدولية صعبة ومعقدة. لذلك تعمد، وهي تعالج أزماتها الداخلية، إلى مراقبة ردود أفعال الخارج (نعني الولايات المتحدة تحديدًا في وقتنا الراهن). وفي العموم، يمكن القول إنه كلما كانت نظم الحكم الاستبدادية مرتاحة أكثر في علاقاتها الدولية أمعنت في قمع معارضة الداخل، وكلما اعتمدت على الدعم الاقتصادي الخارجي استقلت أكثر في إرادتها عن الداخل، وكلما كانت نظم الحكم تؤدّي خدمات جليلة للخارج حصّنت نفسها ضد النقد والضغط. من هذا الباب، تشكو الصين من ازدواجية المعايير الغربية في التعامل مع مسألة حقوق الإنسان، إذ تجد نفسها عرضة لانتقادات شديدة خلاف الهند، رغم أن البلدين يسيئان التعامل مع مواطنيهما من المسلمين بنفس الدرجة.
يمكن من ذلك القول إن مناخ التوتر والتصعيد في العلاقة مع الغرب، والأوضاع الاقتصادية الصعبة، هما ما دفعا الصين وإيران باتجاه تقديم تنازلات ما كان ممكنا تقديمها في ظروف مغايرة. هذه هي آلية تفكير الاستبداد، لا يرفّ جفنها أمام الداخل إلا بفعل ضغوط خارجية، لا تكون عادة مرتبطة بمصالح الشعوب المنكوبة.