عندما يمنعون هذا الكتاب في الأردن
اسمُها في الأردن هيئة الإعلام، أعلنت الحكومة عنها في العام 2014، لتقوم بمهام دائرة المطبوعات والنشر (أنشئت في 1927). وعيّن، في مايو/ أيار الماضي، المحامي طارق أبو الراغب مديرا عاما لها. غرّد، في حينه، إن الإنجاز والعمل (في الهيئة) سيكون بديلا عن الكلام والوعود. والظاهر أنه يأخذ بقولته تلك، فمن جديد المنجزات قرار الهيئة، الأسبوع الماضي، منع بيع (وتداول) كتاب الأستاذ الجامعي الأردني، حسن البراري، "الصهيونية، إسرائيل، والعرب، مئة عام من الصراع" (الأهلية للنشر والتوزيع، معهد السياسة والمجتمع للأبحاث والدراسات، عمّان، 2021). كما أنه لم يكترث بالوعود، فقد أبلغ موقعا إلكترونيا محليا استوضح منه، الخميس الماضي، أسباب قرار المنع، بأنه سيجيب، بشكل رسميٍّ وتفصيلي، يوم الأحد (أول من أمس). ولكن الموعد مرّ ولم يف المسؤول المحترم بوعده. ولمّا كان الإعلام يعني الإخبار والاتصال والتواصل، يصير بديهيا أن تُعلن الهيئةُ المعنيةُ ذرائع حظرها بيع كتابٍ وتداوله، ما يعني جمعَه من السوق، وإتلاف النسخ المتبقية منه، وفي البال أنه كان من معروضات "الأهلية للنشر والتوزيع" في جناحها في معرض عمّان الدولي للكتاب في سبتمبر/ أيلول الماضي، وبيعت منه نسخٌ عديدة. وقد يدفعُنا، نحن الذين قد نُرمى بسوء الظن، استنكافُ أبو الراغب عن الوفاء بوعده ذاك، إلى حسبانِه وفاءً للنهج الطوطمي الذي تسلكه "هيئة الإعلام" في الأردن، في مسألة منع كتاب، فلم يتم إبلاغ دار النشر بالقرار المستهجَن في خطابٍ مرسَلٍ إليها، موقّع وموثق، ويتضمّن حيثيات القرار ودواعيه، وإنما هي مكالمةٌ هاتفيةٌ وحسب. وهذا أداءٌ يعصى على التفسير، هل يُؤخذ به حفاظا على "خط رجعة"، أم ليُتاح للهيئة قولُها لاحقا إنه لا منع لهذا الكتاب ولا ما يحزنون، وإنما هي أقاويل يشيعها أصحاب غرض، فترويج قصة منع كتاب يفيد في زيادة مقروئيته وإثارة الفضول بشأنه.
قد لا يجد القارئ الخاص، المتطلّب، الدارس، إضافةً جديدةً ونوعيةً في كتاب حسن البراري، في موضوعته، إلا أنه يجد تتابعا موثّقا متقنا في إحاطته بوقائع مئة عام من الصراع العربي الإسرائيلي. ولا يدّعي المؤلف صفةً لكتابه ليست فيه، بل يوضح أن الكتاب جاء "مساهمةً متواضعةً" في تغطية الجوانب المختلفة للصراع، بمنهج علمي. ويوحي أيضا بأنه كتابٌ يصلُح لأن يكون مقرّرا يُدرّس في الجامعات العربية لطلبة البكالوريوس. ولعل نأي الكتاب عن السجالية والإشكالات الخلافية، إلى حدٍّ ما، مما يجعل الكتاب مناسبا للهدف المتوخّى منه. وللحق، يبسُط البراري، وهو أستاذ العلاقات الدولية في جامعة قطر حاليا (عمل في الجامعة الأردنية وجامعتي نبراسكا وييل)، المنعطفات المركزية في مسار التطوّرات التي تلاحقت منذ ما قبل قيام إسرائيل وصولا إلى انسداد آفاق عملية التسوية معها. وجاء طيّبا، في الأثناء، الربط العلمي، والموضوعي، بين قضية فلسطين وسياقها العربي العام. وقد حافظ الكتاب في وقفاته، التفصيلية أحيانا والموجزة أحيانا أخرى، على رؤيةٍ أساسيةٍ ناظمةٍ له، وهي الوعي بخطورة المشروع الصهيوني، الاستيطاني الإحلالي التوسّعي، إنْ في استهدافه الأرض الفلسطينية، ومحاولته محو الهوية الوطنية الفلسطينية، وكذلك في دأبه على إضعاف أسباب القوة لدى غير بلدٍ عربي، الأردن ومصر وسورية والعراق ولبنان و...
يأتي الكتاب الذي صار ممنوعا في الأردن على بسالة الجيش الأردني في إخراجه اليهود من القدس القديمة في مواجهات حرب 1948، وعلى رفض الملك الحسين الغدر بالفلسطينيين وتوسيعه حدود مملكته على حسابهم، في لقاء سرّي غير ودّي مع وزير الخارجية الإسرائيلية، موشيه دايان، في 1977 في لندن، وقبل ذلك على رفض الملك الراحل خطّة إيغال آلون وتهديدا مبطّنا من الأخير في لقاءٍ جمعهما في لندن في 1968. ويوثّق الكتاب مصادره، ومن ذلك استناده إلى المؤرّخ الإسرائيلي، آفي شلايم، بشأن اتفاقٍ غير مكتوبٍ بين الملك عبدالله الأول وممثلة الوكالة اليهودية، غولدا مائير، قبيل صدور قرار تقسيم فلسطين في 1947. وأيا كان الأمر، في وُسع مؤرّخين وباحثين مختصّين أن يوضحوا ويشرحوا، لا أن تُترك قضايا مثل هذه لأخيلة موظفين في دائرةٍ حكومية، يقلّبونها بسوء فهم أو بافتراض سوء طويةٍ لدى حسن البراري، فيأخذون قرارا بمهاتفة "الأهلية للنشر والتوزيع"، وإخطارِها بمنع بيع (وتداول) كتابٍ طالعه صاحب هذه السطور، وعاين فيه جهدا ظاهرا، وصدقيةً علميةً ووطنيةً أيضا.