عن "إحباط سنّي" في لبنان
بعد سلسلة قرارات خاطئة، ورهانات خاسرة اعتمدها رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق، سعد الحريري، نمطًا لممارسته السياسة، تكرّس عنوان "الإحباط السني"، ما انعكس سلبًا في الوعي الجمعي، نظرًا إلى أن اللبنانيين في نظام طائفي، ونظرًا إلى أن الحريري وتياره قابضان على الطائفة السنية كغيره من الزعامات، ونظرًا إلى أنه صلة الوصل بين أفرادها وبين مؤسسات الدولة في علاقات الزبائنية السائدة، فأزمة الحريري، وفق المنطق السلطوي الطائفي السائد، هي أزمة الطائفة بكل أفرادها. .. علمًا أن ملامح "الإحباط" قد ارتسمت على مراحل عدة. في الحرب الأهلية، حين القضاء على تنظيم "المرابطون"، المليشيا السنّية المسلحة. بالإضافة إلى محطات مختلفة، مثل اغتيالي المفتي حسن خالد والرئيس رشيد كرامي .. إلخ. ما هيأ الارضية لكي يأتي رفيق الحريري "المخلّص" من هذا اليتم السياسي. أما عقب اغتيال الحريري عام 2005، عادت لتتصاعد عند السنة بكائية "فقدان الأب"، وفقدان الدور السياسي كعصب النظام، فكان اغتيال "مخلّصها" مزيدًا من تكريس "للإحباط"، كما أن واقعة 7 أيار/ مايو 2008، غزو حزب الله وحلفائه بيروت، رفع منسوب الإحباط المترافق مع القضاء على آخر مرتكزات "الحريرية السياسية" التي تحوّلت شماعة يعلّق حزب الله عليها كل إخفاقاته التي تكشف زيف ادّعاءاته.
نمط العناوين هذه، بما تحمله من نفَسٍ شمولي، أداة للهيمنة على وعي الجماعة ولاوعيها، فتتمترس خلف ضيق وكرب ناجميْن عن عدم القدرة على التأثير المتمثل في استفادة زعماء الطائفة من المسرح السياسي، ناهيك عن فقدان القدرة على تأدية دورٍ أساس في حقبة ما. إنه وصف لشعورٍ بتعميم الغبن، يتأتّى عن حالة المراوحة والخسارة المستمرّة والمطردة بعناوين مختلفة، في مقدمتها الدور "التاريخي" التعميمي المتخيل.
ما يزيد طين "إحباط الأفراد" بلة، أن "سوليدير"، رأس حربة مشروع الحريري، سيطرت على مساحةٍ كبيرةٍ من قلب العاصمة، وذلك على حساب البيارتة عمومًا، ونسبة كبيرة من السنة خصوصًا
قد يُستخدم هذا النوع من العناوين لشد العصب، وللاستثمار في تأسيس عصبيةٍ يمكن ترجمتها بنوع من التعاضد المعنوي والسلوك الفردي الهادف إلى رفع شأن الجماعة من خلال التحلق حول قيادة ما (كما تبع التنكيل بالقيادات المسيحية بعد الحرب، وتحلق المسيحيون حول البطريرك صفير بما مثله من نقطةٍ جامعةٍ للسلطتين، الدينية والسياسية، وما تم وسمه حينها بالإحباط المسيحي جرّاء خروج القيادات من المعادلة). هذا أصل الإشكال، فالنظام في لبنان يقوم على الجماعة كشمولية كيانية سرعان ما تحوِّل أفرادها أسرى العناوين التي تطرحها، بما فيها "الإحباط" الذي وقعت ضحية استعماله جرّاء الحاجة المتكرّرة إلى تأكيد علاقة المظلومية تلك.
والمسألة محاولة قراءة في تعميم "الإحباط" الناتج عن انتهاء استفادة بعض القوى التي سيطرت في الماضي، واستكمالها في قراءة سلوك قوى تقليدية تحاول تعبئة فراغ مشهد انكفاء الحريري، وفي مقدمتها دار الإفتاء، في الحاضر، فبالإضافة إلى سعيها الحثيث لشد العضد السنّي حولها من ناحية، من خلال الاستقواء على أضعف الأطراف في النسيج الاجتماعي اللبناني، ها هي تستكمله بالتغطية على سياسيي الطائفة التقليديين الذين ساهموا في الانهيار بأشكالٍ ونسب مختلفة. وهذا نابعٌ من محاولة تعميم "الإحباط"، بل هو محاولة تغذيته وإعادة إنتاجه عند الأفراد كذلك. خصوصًا عندما تنحشر جماعةٌ لها هذا الامتداد والحضور من المحيط إلى الخليج، ثلاثة عقود متتالية، بين فكّي كماشة رجال الأعمال والمؤسسة الدينية وغيرها من القوى التقليدية.
فإذا ما أمعنا النظر، سرعان ما يتكشّف عقم شعار "الإحباط" على المستوى الشعبي. هو وهم الجماعة بشأن آليات إقصائها. ما يستدعي أن يكون منبع الإحباط، من وجهة نظر أخرى، كامنا في تقويض كل الاحتمالات خارج فكّي تلك الكماشة، وانحسار هذه الجماعة بين قوىً لا تقدّم أي مشروع سياسي لبناني مختلف يعالج الإشكالات الراهنة. فعلى الرغم من ارتباط الحريري الأب بشبكة علاقات متينة بالدول الاقليمية والدولية، إلا أنه لم يبلور مشروعا سياسيا أيديولوجيا بقدر ما كان مشروعًا يفرّغ الطرح من كل سياسة وينشّفه من كل إنتاج.
إن كان ثمّة خروج من حالة الإحباط والأوهام المتمحورة حوله، فبالسياسة وحدها
ولعل ما يزيد طين "إحباط الأفراد" بلة، أن "سوليدير"، رأس حربة مشروع الحريري، سيطرت على مساحةٍ كبيرةٍ من قلب العاصمة، وذلك على حساب البيارتة عمومًا، ونسبة كبيرة من السنة خصوصًا، وها هم ينتشرون اليوم في الضواحي ومناطق تمتد إلى ما بعد تخوم بيروت. كما أن دار الإفتاء، والتي طالما عملت على تغطية القيادات السنية التي تتحمل جزءا أساسا من مسؤولية الانهيار (خصوصًا الحريري)، تستكمل اليوم تغطيتها بالتموضع إلى جانب السلطة، بهدف التهرّب من المسؤولية الأخلاقية والحقوقية والشرعية أمام ناسها وأمام غيرهم من اللبنانيين ممن تم تفقيرهم. من دون أن تكلّف نفسها عناء حمل صرختهم، مع المحافظة على عدم الانزلاق إلى السياسة والتموضع في مواجهة حقٍّ من هنا أو من هناك. ولكن هذا ما لم يكن على قدر الطموحات، بل لقد كان جل نشاطها في الانتخابات النيابية أخيرا منصبًّا على محاربة الأصوات الناشئة والناشطة التي تصدح خارج حسابات "القيادات" التقليدية والسلطوية، فكانت مواجهتها القوى الناشئة بمثابة جسر الدفاع عن مصالحها. ولم تكن عناوين محاربة الزواج المدني وربطه بقضايا المثليين، والتمسّح "بقيم" المجتمع إلا مجرد غطاء. فهل تحوي تلك "القيم" غضّ النظر عمّن يرتكب، وعمّن يصادر تعب الناس ومجهودهم وحقوقهم، ومن يسرقهم .. إلخ؟ وهل تقف "القيم" على باب إذلال الناس أمام الأفران والصيدليات والمصارف وغيرها؟
إذا كان هناك ما يمكن أن يكون سببًا للإحباط، فهو ﻷن أفرادها محاصرون في كمّاشة هذه القوى. وهو ما يستدعي لا "الإحباط" على طائفة بهذا الحجم والامتداد، بل الإحباط من عقمها ومراوحتها، لا يستدعي الخوف عليها، بل الخوف منها ومن انسداد أفقها، فأن تشهد ساحات المواجهة في أيام الانتخابات النيابية هذه الحملة الشرسة في وجه مرشّحي التغيير من الشارع السني، واستخدام الجوامع للتحريض ضدّهم، بهدف التأثير السلبي على مزاج الناخبين. وأن تأتي النتيجة بعد كل الحملات على منوال الخروق التي حدثت. حريّ بالقوى مراجعة حساباتها وإعادة النظر بمنطلقاتها ومقارباتها. وإن كان ثمّة خروج من حالة الإحباط والأوهام المتمحورة حوله، فبالسياسة وحدها، بالمشروع وحده، بطلب الحق والدفاع عن جميع الحقوق، بالتوسّع إلى خارج حدود الجماعة المتقوقعة وطروحاتها التقليدية والمحافظة، لا البقاء أسرى عناوين فضفاضة تطاول أوليغارشيتها والطبقة المستفيدة منها حصرًا.