عن الأوليغارشية العربية
مفهوم النخبة، أو الصفوة، من المفاهيم التي صاحبتها دراسات ونظريات كثيرة. وعلى الرغم من تعدد التعريفات، إلا أنه يمكن القول إن الصفوة هي القلة التي لديها إمكانات كثيرة، وهي الأقلية التي تمتلك الثروة والقوة والسيطرة والمكانة الاجتماعية، ويمكن استخدام المصطلح كذلك للدلالة على الفئات المميزة المتنوعة في المجتمع.
ودائما، منذ قديم الأزل، تثار الأسئلة: لماذا هناك أشخاص لديهم كل شيء بدون مجهود يذكر، فيها تعاني الأغلبية من صعوبة المعيشة أو المهانة؟ ولماذا هناك من لديهم سلطة ويصدرون الأوامر فيما هناك آخرون عليهم أطاعتها؟ ولماذا هناك من يحتكر مصادر القوة فيما آخرون محرومون منها؟ منذ قديم الأزل، وهناك من يحاول التفكير والإجابة على هذه التساؤلات، فقد أشار أفلاطون إلى فكرة حكم الأقلية في كتاب الجمهورية، حيث أطلق مصطلح الأوليغارشية، واعتبرها الشكل والمثال السيئ للحكم. أما أرسطو فقدّم تفاصيل أكثر، واعتبر أن دائما هناك أقلية تحتكر الثروة، ما يؤدّي إلى احتكار السلطة ومصادر القوة، ويحاولون منع الآخرين من الترقي والدخول في طبقة الصفوة، وهذا يؤدي إلى الطغيان والفساد الذي يعجّل بالانهيار.
تختلف طبيعة الصفوة أو الفئة المحتكرة للسلطة من مكان إلى آخر أو زمان وآخر، ولكن تبقى فكرة الديمقراطية الإجراء الذي يحجّم الأوليغارشية
وقد قسّم عالم الاجتماع، فلفريد باريتو (1848 - 1923) المجتمع إلى صفوة حاكمة وصفوة غير حاكمة، وأيضا هناك أغلبية يطلق عليها اللاصفوة، أما الحاكمة فهناك فئة الأسود وهناك أيضا فئة الثعالب الذين يستطيعون التكيف والمراوغة. واستمرّ عالم السياسة غيتانو موسكا (1858 -1941) في تقسيم المجتمع إلى فئتين رئيسيتين: طبقة الأقلية/ النخبة/ الصفوة الحاكمة أمام الطبقة الأكثرية المحكومة. وتتميز طبقة الأقلية بمميزاتٍ تجعلها قادرة على الوصول إلى مصادر القوة أو الثروة او السلطة، أما الأغلبية فيفتقرون لتلك المميزات. وتتميز الأقلية الحاكمة كذلك بالقدرة على التنظيم الجيد والدفاع عن مصالحها، بينما تفتقر الأغلبية لتلك المَلكات. ولكن الجماهير تستطيع، في بعض الأحيان، القيام بثورة، وإزاحة الصفوة الحاكمة، ليجري إنشاء صفوة جديدة تستخدم الأساليب القديمة نفسها. وصاغ عالم الاجتماع والسياسي الألماني الإيطالي، روبرت ميتشيلز (1876 - 1936)، فكرة القانون الحديدي للأوليغارشية، وأسقطها ليس فقط على النخبتين الحاكمة والسياسية، بل أيضا على كل المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والأحزاب المعارضة. ويستكمل ميتشيلز ما وصل إليه باريتو وموسكا، ويرى أن لدى كل فئة نخبة أو صفوة، وتعمل كل صفوة أو نخبة في كل مجال على منع الآخرين من الوصول إلى المكانة نفسها، وتتحوّل النخبة إلى مجموعة تدافع بشراسة وقسوة عن مصالحها، من أجل الاحتفاظ بمصادر القوة والثروة والسلطة، إلى أن تنجح مجموعة أخرى في الوصول إلى مكانة الصفوة عن طريق الإحلال والإزاحة لأي سبب، فتبدأ هي الأخرى في منع الآخرين من الوصول إلى المكانة نفسها وهكذا، وهو ما يسمّى القانون الحديدي للأوليغاركية.
ويرى ميتشلز أيضا أن في الديمقراطية التمثيلية أوجه قصور عديدة، فمن يصل إلى السلطة أو موقع اتخاذ القرار، حتى وإن كان عن طريق الانتخابات سيسعى أيضا إلى أن يحافظ على تلك المكانة بالوسائل كافة، ويلجأ بعض آخر إلى طرق غير مشروعة، تمكّنه في السلطة أكبر وقت ممكن. ويرى ميتشيلز أن فكرة الديمقراطية، في حد ذاتها، مثالية رومانسية غير قابلة للتحقيق في الواقع، وربما أدّت التجربة الديمقراطية التمثيلية لوصول مجموعة تغلق الباب أمام الآخرين، كما حدث في وصول هتلر إلى السلطة في ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية. ولكن بشكل عام، يرى ميتشلز أن الديمقراطية التمثيلية قد تلجم حكم الأقلية واحتكارها السلطة أفضل من أنظمة الحكم الأخرى، وكذلك أن التنشئة الديمقراطية قد تساهم كثيرا في الحد من الميول إلى السلطوية. وفي حديثه عن الأسود والثعالب بالصفوة الحاكمة، يرى باريتو أن الصفوة تحافظ على مكتسباتها، عن طريق دغدغة المشاعر واستخدام الشعارات وخداع الجماهير، وإن من وسائلها للحفاظ على مكانتها عدم إطلاع الجماهير على الحقائق، وإبقاء المحكومين في صراع داخلي دائم، وأن الصفوة تصل إلى تلك المكانة بسبب امتلاكها مميزات كثيرة، وبالتالي عليهم ضم مزيد من النبهاء لطبقة الصفوة من أجل تجديد الدم واستمرار الحفاظ على تلك المكتسبات.
حتى القيادات الثورية أو المعارضة للحكومات يكون فيها قلة تسيطر على الأمور
عندما نحاول إسقاط تلك الدراسات أو النظريات على واقعنا في مجتمعاتنا العربية، نجد أنها مطبقة بالفعل، ويتم تداولها منذ القدم، فتتغير الصفوة في مجتمعاتنا مرارا حسب الظروف والأحوال، غالبا لم تخرج الصفوة في مجتمعاتنا العربية منذ الخمسينيات عن أصحاب البزّات العسكرية وحلفائهم من رجال أعمال وأصحاب الثروات، ليس للمثقفين والعلماء مكانة كبيرة ضمن الصفوة الحاكمة، إلا من هو مضمون ولاؤه للحكام، ويستطيع تطويع علمه أو مؤهلاته لخدمة أصحاب النفوذ.
شاهدنا كذلك، في كثير من تجارب التحرّر العربية والأفريقية ضد الاستعمار، كيف تحوّل المناضلون مستبدين يمارسون أسوأ واشد وسائل القمع والإرهاب ضد شركائهم ورفاق النضال القدامى، وكيف يتحوّل الثوار مستبدّين جدداً يمارسون الممارسات نفسها التي ثاروا عليها من قبل.
شاهدنا في تجربتنا الحديثة بعد ثورات الربيع العربي كيف حاول كثيرون من رجال السلطة السابقة التلون بلون الثورة الجديدة حتى يكون لهم مكان في النظام الجديد إن نجحت الثورات. وشاهدنا كيف كان رجال النظام المخلوع يعملون، بتكتم وتخطيط محكم، من أجل استعادة السلطة والنفوذ والانقلاب على الثورات المطالبة بالحرية والديمقراطية. وشاهدنا شره الإسلاميين إلى الوصول إلى كل مفاصل السلطة بعد الثورات العربية في 2011 والاستحواذ عليها واحتكارها ومحاولاتهم إغلاق الباب أمام الآخرين، واستغلال الأنظمة العربية والحكومات السابقة والمؤسسات العتيقة أخطاء الإسلاميين وأخطاء الثوار عموما، وتلك الحرب ضد الثورات العربية 2013 ومستمر في الوطن العربي من الأنظمة، والمؤسسات الرجعية وأصحاب الامتيازات والمصالح.
لدى الإنسان ميل إلى السلطوية والتحكّم في شيء ما، فما أن يصل إلى السلطة أو شيء من القوة أو الثروة أو الامتيازات، حتى يرغب في مزيد منها
ينطبق قانون الأوليغارشية على الأحزاب السياسية والشركات التجارية والمصالح الحكومية والمؤسسات الأمنية والجمعيات الأهلية أيضا، وعلى كل موقع قد تكون فيه سلطة ما، فحتى القيادات الثورية أو المعارضة للحكومات يكون فيها قلة تسيطر على الأمور، وقد يسعى كثيرون منهم إلى الحفاظ على المكتسبات الشخصية وخلطها بشعارات المصلحة العامة. ويظهر القانون الحديدي هنا أيضا فيصنعون سياجا بينهم وبين الجماهير تحت شعارات حماية الثورة أو حماية النضال، أو غير ذلك من مبرّرات، فلدى الإنسان ميل طبيعي إلى السلطوية والتحكّم في شيء ما، فما أن يصل إلى السلطة أو حتى شيء من القوة أو الثروة أو الامتيازات، حتى يرغب في مزيد منها، وإلى منع الآخرين من الوصول إليها. وحتى على المستوى البسيط، نشاهد سلوك الموظفين وحروبهم الصغيرة بين بعضهم بعضا من أجل منع الجدد من الترقي في المناصب أو معرفة أسرار العمل.
وبشكل عام، تختلف طبيعة الصفوة أو الفئة المحتكرة للسلطة من مكان إلى آخر أو زمان وآخر، ولكن تبقى فكرة الديمقراطية، وإن كانت مثالية، الإجراء الذي يحجم الأوليغاركية، ويضمن مزيدا من تكافؤ الفرص أمام الجميع، وإمكانية الترقي والانتقال بين طبقات المجتمع بشكل سلمي ومشروع. فعلى الرغم من وجود مفهوم الأوليغارشية في الغرب من طبقات رجال المال والأعمال وأصحاب النفوذ ولوبيّات السلاح، لكن الممارسات الديمقراطية العتيقة تسمح بدخول آخرين في طبقة الصفوة الحاكمة بدون تلك الصراعات وحروب تكسير العظام أو الحروب العنيفة التي نراها في بلادنا العربية، كما أن تداول السلطة الدوري يقلل كثيرا من حدّة الصراع، فمن الممكن أن نرى هناك رئيس وزراء شاباً استطاع الترقي والدخول في الصفوة، ولديه في الوقت نفسه، مؤهلات حقيقية غير شروط القبول التي نراها في بلادنا، ونرى أيضا إمكانية لترقي الأكاديميين والعلماء والمثقفين، وإمكانية انضمامهم للصفوة الحاكمة بدون ذلك الكمّ الكبير من النفاق والتطبيل والموالسة التي يحتاجها المرء في بلادنا.