عن البيئة الجديدة للحوار التركي السوري
إذا كانت هناك نتيجة واضحة للاجتماع الرباعي، الذي جمع على مدى يومين نواب وزراء خارجية كلّ من تركيا وسورية وروسيا وإيران، في موسكو، فهي أنّ أنقرة ودمشق لا تزالان بعيدتين عن إمكانية التوصل إلى اتفاقٍ لإعادة إصلاح العلاقات في المستقبل المنظور. مع ذلك، مجرد تطوير اللقاءات الثنائية برعاية روسية وإيرانية من المستوى العسكري والاستخباراتي إلى مستوى سياسي يُعدّ خرقاً في مسار المفاوضات. هناك ملاحظتان مُهمتان يُمكن استخلاصهما من الاجتماع الرباعي. أولاً، المرونة الجزئية التي أبداها النظام السوري في المفاوضات، من خلال موافقته على المشاركة في الاجتماع قبل الحصول على ضمانات من تركيا بسحب قواتها من سورية ووقف دعمها فصائل المعارضة السورية، وهما شرطان سبق أن عبّر عنهما بشار الأسد بوضوح في زيارته أخيراً موسكو. وثانياً، نجاح ضغوط موسكو على دمشق للتخلّي عن الشروط المسبقة، والقبول بمبدأ أن الحصول على مثل هذه الضمانات يُمكن أن يأتي نتيجة عملية التفاوض، وليس كشرط مسبق لها. بهذا المعنى، تكمن أهمية انعقاد الاجتماع الرباعي في أنّه نقل الحوار التركي السوري إلى مرحلة جديدة أكثر إنتاجيةً، وأفسح المجال أمام الدبلوماسية بين الدول الأربع لتدوير الزوايا من أجل الوصول إلى أرضيةٍ مشتركةٍ تُحدّد معالم أي تسوية محتملة بين أنقرة ودمشق.
تدرك موسكو أن أردوغان، في حال إعادة انتخابه، سيصبح أقل مرونة في تقديم تنازلات لدمشق من أجل المصالحة
مع أن الظروف المحيطة بالمفاوضات التركية السورية في الوقت الراهن تُعدّ ملائمة لدفع مسار الحوار، خصوصاً في ضوء المنافع المختلفة التي يتطلّع إليها الطرفان في تحقيق المصالحة، وحاجة روسيا إلى تعزيز دورها ضابط إيقاع للتوازنات التركية الإيرانية في سورية، إلّا أن العقبة الأساسية التي تعترض المصالحة تتمثل، بشكل رئيس، بالانتخابات التركية. فمن جانبٍ، يسعى الرئيس التركي، أردوغان، لاستثمار المفاوضات مع النظام، لإظهار للداخل التركي أنه يمضي في إحداث تحول جذري في السياسة التركية في سورية، من دون أن يصل إلى حد التزام الانسحاب من سورية. ومن جانب آخر، يُراهن النظام السوري على أن تؤدّي الانتخابات التركية إلى فوز المعارضة، لاعتقاده أن حصول تحوّل سياسي في تركيا سيُضعف قدرة أنقرة على فرض شروطها في أي تسويةٍ مع دمشق. في ضوء ذلك، من غير المُرجّح أن يطرأ تطوّر كبير على مسار الحوار التركي السوري قبل الانتخابات، باستثناء إمكانية تطوير اللقاءات التركية السورية إلى مستوى وزراء الخارجية. يبرُز التناقض في الموقف من الانتخابات التركية بين كل من روسيا والنظام. بينما يُعوّل الأسد على هزيمة أردوغان، ترى موسكو أن فوزاً محتملاً للمعارضة التركية سيجعل تركيا قريبة من الغرب، وسيُقلص، على نحو كبير، انخراطها في الجهود الروسية لتسوية الصراع في سورية وفق معايير موسكو. لذلك، تبدو الأخيرة حريصةً على الاستعجال في إبرام تسوية تركية سورية قبل الانتخابات التركية، أو على الأقل قطع أشواط مهمة في طريق المصالحة. وتُدرك أيضاً أن أردوغان، في حال إعادة انتخابه، سيُصبح أقلّ مرونة في تقديم تنازلات لدمشق من أجل المصالحة.
بقدر ما أن أردوغان حريصٌ على المصالحة مع الأسد، فإنه لا ينظر إليها غاية، بقدر ما أنها وسيلة لتحقيق بعض الأهداف العريضة لتركيا في سورية
منذ انطلاق المفاوضات المُعلنة بين أنقرة ودمشق برعاية روسية، برزت عقباتٌ عديدةٌ في طريقها. كان من المخطّط، بعد اجتماع موسكو الأول، أن يُعقد اجتماع آخر على مستوى وزراء الخارجية في فبراير/ شباط الماضي، تمهيداً لعقد قمة رئاسية بين الأسد وأردوغان، لتتويج المصالحة، لكنّه لم يُعقد. كذلك أدّى استبعاد إيران عن الآلية الثلاثية إلى بروز عقبةٍ جديدةٍ عولجت بعد ذلك بدعوة طهران إلى الانخراط في هذه الآلية لتُصبح رباعية. كذلك، فشلت جهود عقد اجتماع رباعي على مستوى نواب وزراء الخارجية منتصف الشهر الماضي (مارس/ آذار) في موسكو. لا يعني انعقاد الاجتماع الرباعي أن تفاهماً ما بين أنقرة ودمشق بخصوص قضية الوجود العسكري التركي قد حصل بالفعل، لأنّ مثل هذا التفاهم يُمكن أن يتحقق نتيجة للمفاوضات، وليس شرطاً مسبقاً لها. بقدر ما أن أردوغان حريصٌ على المصالحة، فإنه لا ينظر إليها غاية، بقدر ما أنها وسيلة لتحقيق بعض الأهداف العريضة لتركيا في سورية، ويُمكن تلخيصها بثلاثة أهداف: موافقة دمشق وموسكو وطهران على تعاون معها لإنهاء الإدارة الذاتية لوحدات حماية الشعب الكردية في شمال شرق سورية، ومساعدة أنقرة في تنظيم إعادة طوعية وآمنة للاجئين السوريين على أراضيها إلى بلدهم، فضلاً عن إيجاد أفق جديد لدفع عملية التسوية السياسية للصراع السوري.
لا يوجد ما يدعو إلى الاعتقاد أن تركيا مستعدّة للتخلّي عن وجودها العسكري في سورية مقابل إصلاح العلاقات مع دمشق
نتيجة لتغيير جذري في موقفها تجاه الأسد، أصبحت تركيا تنظر إليه على أنّه طرف رئيسي على الطاولة، ولا يُمكن تجاهله في سياساتها السورية. ولم يكن هذا التحوّل التركي وليد الفترة التي بدأت فيها أنقرة تبنّي نهج إيجابي تجاه دمشق، بل ظهر بعد انضمام تركيا إلى منصّة أستانة الثلاثية مع روسيا وإيران في 2017. لذلك، فالحوار التركي السوري الراهن أحدث تطوّر في السياسة التركية الجديدة في سورية بعد النصف الثاني من العقد الماضي. بمعزل عن دوافع أردوغان في قرار الانفتاح على الحوار مع الأسد، وما إذا كان مرتبطاً بالفعل بظروفٍ انتخابيةٍ داخلية أو بطبيعة الشراكة الجيوسياسية المتنامية بين تركيا وروسيا منذ إعادة إصلاح العلاقات بينهما بعد أزمة إسقاط المقاتلة الروسية عام 2015، أو بكليهما، إلّا أنه لا يوجد ما يدعو إلى الاعتقاد أن تركيا مستعدّة للتخلي عن وجودها العسكري في سورية مقابل إصلاح العلاقات مع دمشق، وقبل تحقيق الأهداف الثلاثة التي تُشكل جوهر استراتيجيتها الجديدة في سورية. علاوة على ذلك، الحديث عن منافع محتملة لأردوغان في الانتخابات من محاولته إصلاح العلاقات مع دمشق مبالغ فيه إلى حد كبير. رغم أن جزءاً كبيراً من الأتراك يُريد إعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، لكنّ مصالحة بين الأسد وأردوغان قبل الانتخابات لن تُحقق هذا الهدف فوراً. وبالتالي، لن تُساهم في إعطاء دفعة انتخابية قوية لأردوغان.
المقاربة التركية لمسألة الانسحاب من سورية لن تتغيّر جذرياً، وستبقى مرهونة بمعالجة الهواجس الأمنية لأنقرة
لا تزال أنقرة تنظر إلى وجودها العسكري في شمال سورية كورقة قوية لديها للضغط على دمشق وموسكو وطهران للقبول بتسوية شاملة للصراع السوري. مع ذلك، يعتقد الأسد أن المضي في الحوار مع حكومة أردوغان في هذه الفترة قد يُساعده في تقوية موقفه الانتخابي في الداخل، ويرى أنّ من مصلحته إبرام تسوية مع تركيا في ظل قيادة المعارضة لها، لأن خطاب الأخيرة يُعطي مؤشّرات على أنها راغبة في إصلاح العلاقات مع دمشق بأي ثمن. لكنّ هذا الاعتقاد يُمكن المجادلة به. حتى لو أحدثت الانتخابات التركية تحوّلاً سياسياً، فإن المقاربة التركية لمسألة الانسحاب من سورية لن تتغيّر جذرياً، وستبقى مرهونة بمعالجة الهواجس الأمنية لأنقرة إزاء وحدات حماية الشعب الكردية. كذلك، إن رغبة المعارضة في إعادة اللاجئين السوريين لا يُمكن أن تتحقق من دون تأمين ظروف آمنة وكريمة لإقناعهم بالعودة. وهنا تبرُز اتفاقية أضنة المبرمة بين تركيا وسورية عام 1998 كأرضية جيدة للمفاوضات بخصوص مستقبل الوجود العسكري التركي. يُمكن لموافقة دمشق على تعديل هذه الاتفاقية بشكلٍ يسمح لتركيا بالتدخل العسكري في الأراضي السورية بعمق 30 كيلومتراً لمحاربة أي تهديدٍ ناجم عن وحدات حماية الشعب الكردية، الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني، أن تشجع أنقرة على الموافقة على وضع جدول زمني لسحب قواتها. علاوة على ذلك، ستساعد موافقة النظام على عودة آمنة وكريمة للاجئين السوريين، أردوغان في معالجة قضية اللجوء التي تضغط عليه في الداخل.