عن التقارب السوري التركي
مع التصريحات الصادرة أخيراً عن أنقرة ودمشق وموسكو، يعود الى الواجهة مجدّداً موضوع تطبيع العلاقات بين تركيا والنظام السوري، والذي يبدو أنه يأخذ منحىً تصاعديّاً أكثر جدّية هذه المرة. وكانت محاولات تركيا للتقارب مع النظام السوري بدأت منذ مطلع العام 2021، بدافع من عوامل رئيسة ثلاثة: أولاً، تقدير تركيا عدم واقعية الأهداف التي حاولت تحقيقها خلال السنوات الخمس الأولى من الثورة السورية بعد التدخل العسكري الروسي في سبتمبر/ أيلول 2015، والصدام الذي حصل على إثره مع موسكو، ودفعت تركيا أثمانه خسائر اقتصادية كبيرة، كما اكتشفت خلاله أنها لا تستطيع الاعتماد على حلفائها في حلف الناتو في أي مواجهة محتملة مع روسيا (قارن، مثلاً، الدعم الذي حصلت عليه أوكرانيا رغم أنها ليست عضواً في "الناتو"). ثانياً، انفجار قنبلة اللاجئين في وجه حزب العدالة والتنمية، بالتزامن مع دخول تركيا في أزمة اقتصادية طاحنة، تجسّدت في انهيار سعر صرف الليرة وارتفاع معدّلات التضخّم التي ذكّرت الأتراك بأزمات الثمانينيات والتسعينيات الاقتصادية والمالية. وقد تجلت آثار ذلك في خسارة "العدالة والتنمية" بلديتي إسطنبول وأنقرة عام 2019، وكرّستها انتخابات مارس/ آذار الماضي. تمثل العامل الثالث في فوز الديمقراطيين بانتخابات الرئاسة الأميركية عام 2020، وخروج ترامب من السلطة، حيث تخوّفت أنقرة وقتها من سياسات إدارة بايدن الذي كان توعّد خلال حملته الانتخابية إطاحة حكم الرئيس أردوغان (بوسائل ديمقراطية)، كما زادها قلقاً وجود خصوم لها، متعاطفين مع الأكراد، في مراكز عليا في إدارة بايدن، في مقدّمتهم المسؤول عن الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي بريت ماكغورك. ... دفعت هذه العوامل أنقرة حينها إلى تعميق الاستدارة التي بدأتها في سياساتها الخارجية، بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة صيف عام 2016، بالعودة إلى سياسة صفر مشاكل التي ميّزتها قبل ثورات الربيع العربي، وكانت الاستدارة نحو سورية جزءاً منها. بهذا المعنى، لا يمثل التحرك التركي أخيراً نحو دمشق جديداً، الجديد هو استجابة النظام السوري لهذه الاستدارة.
على مدى السنوات الثلاث الماضية، داوم النظام السوري على تجاهل رسائل الغزَل التركية بناء على حساباتٍ ارتكزت، في جوهرها، على سلوكه التقليدي القائم على كسب الوقت والاستثمار في المتغيرات الإقليمية والدولية، من جهة، وتعميق مشكلات حكومة حزب العدالة والتنمية، من جهة ثانية، بما يؤدّي، في نهاية المطاف، إلى سقوطها (عكس العملية). وبالفعل، كان رهان النظام السوري كبيراً على فوز المعارضة في انتخابات الرئاسة عام 2023، حيث جمّد كل مسارات التطبيع مع تركيا، رغم الضغوط التي مارستها موسكو (من واقع حساباتها في أوكرانيا ومع الغرب)، بانتظار نتائج المعركة الانتخابية التركية التي حسمها أردوغان بصعوبة بالغة. فوّتت هذه الحسابات على النظام فرصة الاستفادة من وضع أردوغان الضعيف قبل الانتخابات، وحاجته الماسّة إلى اتفاقٍ مع دمشق يساعده في معركته الانتخابية الصعبة. بعد فوزه، تبنّى أردوغان مسلكاً انتقامياً فترة وجيزة، حيث أبدى اهتماماً أقلّ باستئناف مسارات التطبيع مع دمشق، رغم حاجته إلى حل معضلة اللاجئين، استعداداً لمعركة انتخابية محلية أكثر قسوة كانت بانتظاره ربيع العام 2024.
بعد حرب غزّة، أخذت حسابات الطرفين تتغير من جديد، إذ فاقمت هذه الحرب مخاوف أردوغان من ترتيبات إقليمية جديدة قد تعزّز الطموحات الكردية في شمال شرق سورية، وتعدّ هذه نقطة التقاء رئيسة اليوم بين أنقرة ودمشق التي فقدت بدورها السيطرة على فرانكشتاين (التنظيمات الكردية المتحالفة مع واشنطن)، كما ينشد أردوغان حلاً لمشكلة اللاجئين التي باتت تهدّد السلم الاجتماعي في تركيا، في وقتٍ أخذ النظام السوري يشعر بوطأة الاستنزاف البشري الهائل الذي تعانيه البلاد في كل القطاعات وعلى كل المستويات. اقتصادياً، بات النظام يرى في الانفتاح على تركيا فرصة لتحسين أوضاعه الصعبة، بعد أن خاب أمله بنتائج الانفتاح العربي، فيما تعاني حليفتاه (إيران وروسيا) تحدّيات اقتصادية وسياسية كبرى. ... هذا لا يعني أن التطبيع حتمي، فدونه "جبالٌ" من الضغائن وعدم الثقة المتبادلة. هذا يعني فقط أن الحسابات وقراءة المصالح تغيّرت، التعبير عنها سياسيّاً موضوع آخر.