عن الحكومة التونسية والتعديل الوزاري المرتقب
أربعة أشهر أو يزيد مرّت على نيل الحكومة التونسية، برئاسة هشام المشيشي، ثقة البرلمان، لتحلّ محل حكومة إلياس الفخفاخ المستقيلة والمقالة في آن واحد. لم يكن المشيشي من مشاهير السياسة التونسية، أو ممن عرفتهم ميادين النضال السياسي، أو الفعل الاجتماعي والمدني النقابي والجمعوي في ظل نظام زين العابدين بن علي، أو بعد انهيار ذلك النظام، فقد اكتفت سيرته الذاتية بالإخبار عن حصوله على الأستاذية في القانون من الجامعة التونسية، وعلى دبلوم مستشار المرحلة العليا في المدرسة الوطنية للإدارة بتونس سنة 2002، وهي السنة نفسها التي سيصبح فيها مراقباً في الهيئة العامة لرقابة المصالح العمومية في الوزارة الأولى، متدرجاً في رتبها إلى أن بلغ رتبة مراقب عام للمصالح العمومية، وبتدوين عضويته في لجنة تقصي الحقائق عن الفساد والرشوة التي ترأسها رجل القانون الراحل عبد الفتاح عمر، عشية سقوط نظام بن علي سنة 2011، ورئاسة دواوين وزراء النقل وشؤون المرأة والشؤون الاجتماعية والصحة، قبل أن ينتدبه رئيس الجمهورية، قيس سعيد، ضمن فريقه الاستشاري ليتولى مباشرة بعد ذلك وزارة الداخلية في حكومة الفخفاخ، المعروفة بحكومة الرئيس الأولى.
تمثل السيرة الذاتية لرئيس الحكومة التونسية مفتاح فهم الرجل الحكم وخلفيته في تشكيل حكومته، فهو يعتقد أن رجال الإدارة التونسية وكوادرها ومراقبيها هم الأجدر بممارسة السلطة، ما جعله يختار وزراءه من الموظفين السامين والقضاة وأحد المحامين، الذين يتقاسمون معه الانتماء الإداري، وتخلو سجلاتهم السيرية من التحزّب والانتظام السياسي، وخصوصاً المعارض، وهي مفارقة كبرى أن ينأى أغلب وزراء الحكومة التونسية، ورئيسها، بأنفسهم عن مزاولة السياسة والعمل الحزبي الذي اقتضته قديماً إكراهات الخوض في قضايا الشأن العام، أو التصدّي لاحتكار السلطة ومواجهة الاستبداد، وأقرّه حديثاً النظام الديمقراطي والدستور التونسي لسنة 2014 مدخلاً رئيسياً لحق ممارسة السلطة والتداول السلمي عليها، وذلك في الفقرة الثانية من الفصل عدد 89 الذي جاء فيه: "في أجل أسبوع من الإعلان عن النتائج النهائية للانتخابات، يكلف رئيس الجمهورية مرشّح الحزب أو الائتلاف الانتخابي المتحصل على أكبر عدد من المقاعد بمجلس نواب الشعب بتكوين الحكومة خلال شهر يجدّد مرة واحدة". وكان قد أسس له المرسوم عدد 87 لسنة 2011 المتعلق بتنظيم الأحزاب السياسية في فصله الثاني بالقول: "الحزب جمعية تتكون بالاتفاق بين مواطنين تونسيين يساهم في التأطير السياسي للمواطنين وفي ترسيخ المواطنة، ويهدف إلى المشاركة في الانتخابات قصد ممارسة السلطة في المستوى الوطني أو الجهوي أو المحلي".
اعتصامات واحتجاجات كثيفة حتى باتت بعض الشرائح الاجتماعية والمناطق الجغرافية أقرب إلى الخروج عن سلطان الدولة ونفوذ الحكومة
لكن المفارقة الأكبر تتمثل بلجوء رئيس الحكومة إلى كسب الدعم والشرعية من الأحزاب السياسية والكتل البرلمانية لنيل الثقة، الأمر الذي استجابت إليه كلياً أحزاب النهضة وقلب تونس وتحيا تونس وكتلتا الإصلاح والوطنية، وجزئياً كتلة ائتلاف الكرامة، بينما عارضته الكتلة الديمقراطية وكتلة الدستوري الحر، قاطعاً الصلة مع الرئيس قيس سعيد الذي اجتباه من بين أسماء كثيرة رشّحتها الأحزاب السياسية، ولقيت دعمها لتشكيل حكومة الرئيس الثانية، على خلفية استقلاليته وما يقتضيه ذلك من وضع مسافةٍ مع كل الأحزاب.
انطلقت حكومة المشيشي متعثرة مأزومة، تتجاذبها مراكز القوى والنفوذ السياسي والاقتصادي والمالي والدوائر الأجنبية التي تعوّدت صنع القرار المحلي، أو التأثير فيه، وتوجيهه في أقل الأحوال، وتتقاذفها الأزمات الاجتماعية والاحتجاجية المتفاقمة التي بلغت أرقاماً قياسية من الإضرابات والاعتصامات ومختلف أشكال الاحتجاج العشوائي والمنظم، القانوني وغير القانوني، حتى باتت بعض الشرائح الاجتماعية والمناطق الجغرافية أقرب إلى الخروج عن سلطان الدولة ونفوذ الحكومة. ولقد مثلت تلك الاحتجاجات ردّ فعل عفوي على خلو وفاض حكومة المشيشي من البرامج الاقتصادية والاجتماعية التي من شأنها أن تحاصر توسع الحركات الاحتجاجية التي كانت تنتشر على شكل بقع الزيت، أو هي يستنسخ بعضها بعضاً، خصوصاً بعد عقد اتفاق مع تنسيقية شباب الكامور في منطقة تطاوين في أقصى الجنوب التونسي المتاخمة للحدود الليبية التي تتمتع بثرواتٍ باطنيةٍ عديدة، كالبترول والغاز والجبس والرخام، ما جعل من ذلك الاتفاق نموذجاً وعقداً يرغب شباب كل المناطق الفقيرة والمحرومة الذين انتظموا في تنسيقيات محلية وجهوية مستقلّة في النسج على منواله.
لم تضع الحكومة التونسية مخطّطات سياسية، وأخرى استراتيجية، تهدف إلى إنشاء مشاريع عملاقة، وتنفتح على قوى اقتصادية كبرى صاعدة
وقد ترجم قانون المالية لسنة 2021، الذي تضمن عجزاً في ميزانية الدولة بـ 7%، المقدّرة بـ 52.6 مليار دينار، وجاء خالياً من البرامج الاجتماعية، وتوفير المراكز التشغيلية، والرؤى التنموية صانعة الثروة والنهوض والتقدّم، والتوجهات السيادية والحصانة المالية والنقدية، ومعالجة أزمة جائحة كوفيد 19 الهيكلية، التي بلغت أوجها من حيث انتشار الوباء وعدد الوفيات، ترجم ضعف خيارات حكومة الإدارة التونسية وانعدام القدرة على التخطيط والاستشراف لديها، وعدم وضعها مخطّطات سياسية، وأخرى استراتيجية، تهدف إلى إنشاء مشاريع عملاقة، وتنفتح على قوى اقتصادية كبرى صاعدة، وعلى أسواق غير تقليدية خارج المجال الجيو- اقتصادي والسياسي والمالي للاتحاد الأوروبي، للخروج من تردّي نسب النمو السلبي التي بلغت أوجها.
من مظاهر أزمة حكومة المشيشي التي رافقت تشكيلها منذ البداية، ولادتها بعد مخاض عسير في شكل جزر معزولة، ينحدر أعضاؤها من قطاعات مهنية وإدارات مركزية مختلفة وتوازنات جهوية مختلّة، لا تربطها روابط حزبية وعقائد أيديولوجية أو انتماءات جبهوية وأخرى ائتلافية أو مصالح براغماتية، كما هو متعارفٌ عليه في فقه تشكيل الحكومات في الدول الديمقراطية، فمنها من اختاره المشيشي نفسه لصداقاتٍ سالفة وزبونية، ومنها من هو محسوبٌ على رئيس الجمهورية، مثل وزير الثقافة الذي أعفي من مهامه في أيامه الأولى، بسبب زلات في التصريحات والمواقف. وتتالى الأمر مع وزير البيئة والجماعات المحلية الذي أُقيل من منصبه، وأمر القضاء بسجنه لتورّطه في قضية النفايات المورّدة من إيطاليا، لتشمل الإعفاءات وزير الداخلية المؤتمن الأول على الحالة الأمنية.
انطلقت حكومة المشيشي متعثرة مأزومة، تتجاذبها مراكز القوى والنفوذ السياسي والاقتصادي والمالي والدوائر الأجنبية
ولم تكن تلك الإقالات والإعفاءات، في أغلبها، سوى تنفيذ لوعود سابقة والتزامات قطعها هشام المشيشي على نفسه، استجابة للأحزاب التي منحت حكومته الثقة، ومدخلاً لإرضائها بتحوير (تعديل) وزاري واسع، قد يشمل نصف أعضاء التركيبة الحكومية، بدأت الوسائل الإعلامية والاتصالية العيش على وقعه، وانطلقت كواليس أحزاب الحزام الحكومي ومراكز القوى في تداول تفاصيله وصراعاته ومغانمه.
ولا يبدو أن هذه المهمة يسيرة التحقيق أمام نهم حركة النهضة وحزب قلب تونس للمناصب الوزارية والحكومية والمراكز العليا في الدولة، الأمر الذي ترفضه كتلٌ أخرى، وخصوصاً كتلة الإصلاح التي ترغب في الحفاظ على الطبيعة التكنوقراطية للحكومة، هذا زيادة على الطلب المجحف، المتمثل بإطلاق سراح رئيس حزب قلب تونس، نبيل القروي، الموقوف على ذمة القضاء الذي يشتبه في تورّطه في تبييض الأموال. وفي كل الأحوال، سيكون رئيس الحكومة مجبراً في قادم الأيام على الذهاب إلى البرلمان، لترميم حكومته أو لتحويرها وإعادة هيكلتها، على الرغم من عدم التزامه تقييم المائة يوم الأولى الذي تفرضه التقاليد الديموقراطية والأعراف الدستورية، قبل القيام بأي تحوير وزاري، وسيجد نفسه أمام مساءلة شاملة ومحاكمة سياسية جديدة، لتحديد المسؤوليات ومعرفة مآلات حكومته، ومدى قدرتها على الصمود والاستمرار وموقعها من الحوار الوطني المرتقب الذي سيؤمنه رئيس الجمهورية والاتحاد العام التونسي للشغل، اللذان لا يخفيان عمق الاختلاف والتناقض مع الحكومة ورئيسها وحزامها البرلماني.