عن الرئيس الجديد للحكومة التونسية وتعيينه
لأوّل وهلة، ساد شبه إجماع بين التونسيين على شحّ في المعلومات عن أحمد الحشاني الذي اصطفاه الرئيس التونسي، قيس سعيّد، رئيسا لحكومته، مكان نجلاء بودن منتهية المهام بموجب قرار رئاسي تمّ نشره منتصف ليلة 2 أغسطس/ آب الحالي في صفحة الرئاسة التونسية على فيسبوك، وتلاه مباشرة أداء المكلّف الجديد القسم، فصحّ عليه القول "أمر دبّر بليل" لسرّيته الشديدة وإخفائه عن أعين التونسيين أجمعين. ذلك أن رئيسة الحكومة المقالة كانت عشية إقالتها قد جمعت قاعدة بيانات أمر بإعدادها رئيس الجمهورية عن رغبات أعضاء حكومتها في الوزارات التي يرمون توليها في التحوير (التعديل) الحكومي المقبل، مواصلة إشرافها على مجالس الوزراء وجلسات العمل الوزارية الدورية، ولم يتناه إلى علمها من أي جهة كانت أنها تقضّي آخر يوم لها بقصر الحكومة العتيق بالقصبة. إلّا أنّ المجتمع الفيسبوكي التونسي، وهو أكبر حركة اجتماعية مؤثّرة في تونس في الزمن الراهن، أبى إلا أن يبيت ليلته وساكن قصر القصبة الجديد معلوم الهوية والطباع والتاريخ الشخصي والميول العامة.
من المفارقات أن أحمد الحشاني، الشخصية الثانية بعد الرئيس قيس سعيّد، هو نجل صالح الحشاني الضابط الذي تلقّى تكوينه العسكري بالمدرسة الحربية بباردو وبمدرسة سان سير العسكرية الفرنسية والتحق بعسكر البايات إبّان فترة الحكم الاستعماري، وهو كذلك من أبرز الضباط المختارين من الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة من بين عساكر الباي لتأسيس جيش دولة الاستقلال سنة 1956، وآمر حامية قفصة إحدى أكبر الثكنات العسكرية في تونس مطلع عشرية الستينيات، والقائد العسكري للمحاولة الانقلابية على الرئيس بورقيبة سنة 1962، الأمر الذي أدّى إلى إعدامه رمياً بالرصاص في يناير/ كانون الثاني 1963. كان يهدف من مشاركته الانقلابية إلى حكم البلاد عوضاً عن بورقيبة وحكومته، فإذا بنجله يحقّق مبتغى والده بعد نصف قرن أو يزيد ويصبح رئيسا للحكومة التونسية. لكن الحشاني الابن يختلف عن والده في ميوله السياسية اليوسفية والوفاء للزعيم الوطني صالح بن يوسف الذي يتردد أن المخابرات التونسية اغتالته بأمر من الرئيس بورقيبة يوم 12 أغسطس/ آب 1961 في ألمانيا، وكانت المحاولة الانقلابية في أحد أهدافها عملية ثأرية لمقتله.
وقد أظهر رئيس الحكومة الجديد في تدوينات نشرها على صفحته في فيسبوك سنة 2019 نوستالجيا لدولة البايات، معتبرا أن الحكم الملكي الدستوري هو الضامن لتحقيق الديمقراطية والتداول على السلطة، أما الجمهورية التي أعلنها بورقيبة في 25 يوليو/ تموز 1957، بعد إزاحة الأمين باي آخر ملوك السلالة الحسينية (1705-1957) تحت وصاية الدولة العثمانية ووريثتها الاستعمارية، فهي مجرّد انقلاب على الشرعية الملكية. ويعود هذا الموقف إلى وجود روابط دم ونسب تجمعُه بالبايات الحسينيين، إذ ان جدّة رئيس الحكومة، كما يروي شقيقه محمد الهادي الحشاني في فيديو منشور على موقع يوتيوب سنة 2022، وأعاد نشره موقع البلاغ يوم 3 أغسطس/ آب الجاري بعنوان "بعد التعيين المفاجئ لأحمد الحشاني خلفاً لنجلاء بودن" هي حفيدة علي باي الذي تولّى الحكم في تونس 1882-1902 وهو من وقّع على اتفاقية المرسى الاستعمارية سنة 1883 المكمّلة لمعاهدة إعلان الحماية سنة 1881 الموقّعة من شقيقه محمد الصادق باي بالقصر السعيد بباردو، ما مكّن فرنسا من الهيمنة الكاملة على البلاد التونسية.
يبدو أنّ رئيس الوزراء الجديد لا يتقن العربية، اللغة الوطنية الرسمية كما هو منصوصٌ عليه في دستور سعيّد والدساتير السابقة، ولم يكن يستعملها في نشاطاته المهنية
تفيد السيرة الذاتية لرئيس الحكومة التونسية، أحمد الحشاني، التي نشرتها وكالة تونس أفريقيا للأنباء يوم 5 أغسطس/ آب الجاري 2023، بأن الرجل من مواليد 1956، وهو حاصل على شهادة الأستاذية في الحقوق اختصاص قانون عام من كلية الحقوق في تونس سنة 1983، وقد تم انتدابه موظفا في البنك المركزي التونسي سنة 1984، واستمرّ في وظيفته 33 سنة اشتغل في أثنائها بالإدارة القانونية. ومن 2012 إلى 2017 تولى مهام المدير العام للموارد البشرية والتكوين، وقد أحيل على شرف المهنة سنة 2018. فهو شخصية عادية لا يختلف كثيرا عن أغلبية موظفي الدولة التونسية وقد فاق عددهم 650 ألفا، كما لا تحيل مسيرته على تجربة نضالية طلابية وغير طلابية، أو أيٍّ من أنواع المشاركة أو المعارضة السياسية أو الانتماء الحزبي أو الفعل المدني خارج أسوار الجامعة التونسية بعد تخرّجه إبّان فترة حكم الرئيس بورقيبة، احتجاجا منه على إعدام والده أو تيمّنا بأبناء جيله من النخب التونسية واختيار موقع في الحكم أو في المعارضة، وكذلك الأمر طوال حكم الرئيس زين العابدين بن علي وجمهورية الخوف التي أنشأها، وفق مصطلح المؤرخ التونسي الهادي التيمومي، واكتفى في فترة الثورة التونسية 2011-2021، وخصوصا بعد تقاعده بنشر تدوينات فكاهية شبيهة بما ينشره عوامّ الناس وأخرى مؤيدة لدولة البايات على محدوديتها.
لم ينشر الحشاني مقالات رأي في الصحافة التونسية أو أعمالا أكاديمية متعارفا عليها في القانون، وليست له دراية بالاقتصاد وعلومه والمالية ومفاهيمها وتشعّباتها والعلاقات الدولية وإكراهاتها والمنظومة العسكرية والأمنية وخفاياها والمسائل التربوية والجامعية، والسبيل إلى إصلاحها والقضايا الاجتماعية ومآسيها، ويبدو أنه لا يتقن العربية، اللغة الوطنية الرسمية كما هو منصوصٌ عليه في دستور سعيّد والدساتير السابقة، ولم يكن يستعملها في نشاطاته المهنية، فهو صاحب تكوين فرنكفوني متأتٍ من دراسته الثانوية في المعهد العلوي بتونس والجامعية بكلية الحقوق قبل تعريب برامجها الجامعية. هذا علاوة على تنشئته الأولى على يد والدته الفرنسية.
لم يجد متابعو الشأن العام السياسي التونسي من تفسير لتعيين رجل تعوزه كل عناصر النظرية السياسية والتجربة العملية ومقوّمات النجاح المتأتية من المعرفة والخبرة السياسيتين سوى ما يُشاع عن علاقة الزمالة الدراسية والصداقة مع الرئيس قيّس سعيّد الذي أبدى خلال السنوات الأربع التي قضاها رئيسا للجمهورية ممانعة غير مسبوقة في تعيين أي شخص في المناصب المتقدّمة في الدولة من بين الطبقة السياسية التونسية، متحزّبا أو مستقلا، باستثناء تعيين إلياس الفخفاخ رئيسا لحكومة الرئيس الأولى باقتراح من بعض الأحزاب وفق ما تفرضه شروط وآليات الدستور التونسي لسنة 2014، فهو يرى في من له اهتمام بقضايا الشأن العام وحاز تجربة سياسية أو مدنية واكتسب ثقة الآخرين منافسا محتملا على تولي السلطة والرئاسة حتى من أنصاره ومواليه. وهذا الأمر قابل للاستنتاج بيسر من دراسة أولية لسيرة رؤساء الحكومات الثلاث (هشام المشيشي ونجلاء بودن وأحمد الحشاني) الذين عينهم بنفسه من دون إجراء مشاورات مع أيٍّ كان، وسجل الوزراء ومختلف موظفي الدولة القياديين الذين يشتغلون مع الرئيس سعيد منذ موفى 2019.
باشر رئيس الحكومة الجديد مهامه من دون أن يقدّم برنامج عمله وتصوّراته لإنقاذ بلد يئنّ من أوجاع الإفلاس والقروض والتداين والأزمات الاقتصادية والاجتماعية المزمنة
تسمية الحشاني رئيسا للحكومة لم يصاحبها تقييم لأداء سابقته في المنصب نجلاء بودن والوقوف على الأسباب الحقيقية لإقالتها وتحميلها مسؤولية الفشل الحكومي، فهي مجرّد موظفة لدى رئيس الجمهورية تنفذ سياساته وتأتمر بتعليماته وخططه وتوجيهاته وتلتزم أقواله وخطبه وتقف عند حركاته وسكناته وقد أبدت طاعة لا نظير لها للرئيس والتزاما قويا ومعلنا ببرنامج حكمه وفق ما جاء في الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 ودستور 25 جويلية لسنة 2022، وإذا كان من الضروري تحميل المسؤوليات وإقرار الفشل، فيجب أن يكون الرئيس نفسه هو من يتحمّل نتائج اختياراته وما أدت إليه سياساته من فشل حكومي بيّن، إذ لا شيء يتحركّ في تونس دون معرفة الرئيس ورقابته وأوامره، هذا علاوة على أن كافة الاختيارات والتسميات تعود إليه بالنظر دون سواه.
باشر رئيس الحكومة الجديد مهامه من دون أن يقدّم برنامج عمله وتصوّراته لإنقاذ بلد يئنّ من أوجاع الإفلاس والقروض والتداين والأزمات الاقتصادية والاجتماعية المزمنة والمطالب القطاعية المتفاقمة وتنامي الفقر والجوع والعطش والجريمة المنظمة وتفشّي الأمية وغياب الاستثمار وصناعة الثروة والتضخّم المجحف والغلاء المشطّ للأسعار وفقدان المواد الأساسية وتراجع قيمة الدينار ومأزق الهجرة غير النظامية وتداعياتها، وما أدّت إليه من تدخّل أجنبي وانتكاسة المسار الديمقراطي واستبداله بالاستفراد بالسلطة، وقد يعود ذلك إلى معرفته أن بقاءه في منصبه من عدمه يعود إلى الرئيس وحده، فلا سلطان للبرلمان أو المجتمع السياسي والنقابي والإعلامي أو أي جهة رقابية أخرى عليه، ومن ثمّة يكون برنامجه الوحيد الولاء لمن عيّنه والتماهي معه إلى درجة الذوبان فيه، كما كان حال من سبقه.
لا علم للتونسيين ونخبهم بأسباب الاختيار، ولم تعتمد في التسمية مقاييس النجاعة والكفاءة والخبرة والشفافية والمعرفة وروح التضحية لخدمة الآخرين
مثّل تولي الحشاني مهام رئيس الحكومة التونسية صفعة قوية على الخدّ الأيسر لكل القوى الموالية للرئيس سعيّد والداعمة لمساره، مسار 25 جويلية (يوليو/ تموز) 2021، فقد علموا بتلك التسمية من البلاغ (البيان) الذي نُشر في صفحة الرئاسة التونسية على "فيسبوك"، مثلهم في ذلك مثل عوامّ "رعايا" الدولة التونسية، فهو لم يُعرهم أي اهتمام ولم يستشرهم في الاختيار ولم يعلمهم حتى باسم الشخص الذي اجتباه لوظيفة رئيس الحكومة. وهذه ليست المرّة الأولى فقد تمت تسمية نجلاء بودن بالطريقة نفسها، ووفق الآليات نفسها، فكانت الصفعة آنذاك على الخدّ الأيمن. وهذا السلوك الذي ينتهجه سعيّد بتجاهل مواليه وأنصاره قبل معارضيه والاستفراد بأخذ القرارات وعدم إشراكهم في وضع السياسات ومن يختارهم لتنفيذها لا يخلو من معاملة مواليه بوصفهم قصّرا، لا يُعتدّ بآرائهم ممعنا في إذلالهم واحتقارهم وتصغيرهم أمام الرأي العام وأمام أنصارهم وعدم الثقة بهم.
تسمية الحشاني رئيسا للحكومة، التي يروّجها الرئيس سعيّد في خطاباته أنها تعبير عن إرادة الشعب التونسي، في حقيقتها تعبير عن إرادة الرئيس وحده، وهي تسمية زبونية لصديق قديم يُنتظر منه ردّ الجميل لمن ولّاه الأمر، والحفاظ على الولاء له، فلا علم للتونسيين ونخبهم بأسباب الاختيار، ولم تعتمد في التسمية مقاييس النجاعة والكفاءة والخبرة والشفافية والمعرفة وروح التضحية لخدمة الآخرين والنضال من أجلهم وملاءمة الملمح الشخصي للوظيفة والسلطة، فالرئيس لم يُلق بيانا إلى التونسيين، يكشف فيه عن أسباب إقالة نجلاء بودن وينافح فيه عن رئيس حكومته الجديد، ويعرض خصاله التي لا تتوفّر في غيره، وما يتمتّع به من مزايا مكّنته من الارتقاء إلى ثاني أهم منصب في السلم التراتبي للدولة التونسية.