عن العساكر والغلابة
نظام عبد الفتاح السيسي مدينٌ ببرقيتي شكر عاجلتين للذين أسدوا له خدمةً هائلة، في أكثر لحظاته بؤساً وانكشافاً:
برقية الشكر الأولى لمن صنعوا أسطورة ما تسمى "حركة غلابة"، وثورتها في النصف الأول من نوفمبر/ تشرين ثاني الجاري، والثانية لمن صنعوا فيلم"العساكر" التسجيلي في نهاية النصف الثاني من الشهر ذاته.
بدايةً، من حقّ كل طرف أن يسعى، بكل ما يستطيع من وسائل وآليات، لإزاحة هذا الكابوس المخيم على مصر، منذ أجهز عبد الفتاح السيسي على كل فرصةٍ لها في مستقبل كريمٍ وآدميٍّ، تستحقه الجماهير التي سعت إلى التغيير والتحرّر من الاستبداد والبلادة والفشل.
يستوي في ذلك الذين يناضلون بالتظاهر في الميادين، وكذلك الذين يقاومون بالكلمة والصورة والفيلم التسجيلي. وعليه، لسنا هنا بصدد توزيع إدانات، بقدر ما نريد تقييماً حقيقياً لأفعالٍ، انتهت لخدمة سلطة القمع والاستبداد، بدلاً من خلخلتها.
تأسيساً على ما سبق، يحقّ لنا أن نسأل: ماذا حققت دعوة "ثورة الغلابة"، وماذا فعلت زوبعة "فيلم العساكر" ماذا أضافا، وماذا خصما في رصيد مقاومة الانقلاب في مصر؟.
الأثر الباقي، الوحيد، لما عرفت بثورة الغلابة أنها أطلقت أحاديث المصالحات والصفقات، بين النظام ومعارضيه، وأوجدت عديداً من الشروخ والتصدّعات في جدران مقاومة الانقلاب، من خلال تقديمها أداء شديد الهزال والضحالة، قياساً إلى السقف المرتفع، حتى ملامسة السماء، للوعود والتوقعات والأحلام، في الفترة السابقة على تاريخ 11/11 وكأن المقصود كان صناعة يقينٍ زائفٍ بالقدرة على سحق منظومة الانقلاب، بالضربة القاضية أو بالنقاط، ثم يصحو الناس على واقعٍ مقبض، تنطق مفرداته بمزيدٍ من الإحساس بالثقة والثبات، لدى النظام، مقابل شعور بالإحباط واللاجدوى، لدى المعسكر المناهض للانقلاب.
في ذلك، قلت عقب خروج "يوم الغلابة" نحيفاً ومتهافتاً، إلى حدٍّ مزعج، إن على الذين اختبأوا، بكامل أناقتهم الثورية المنفوخة، وراء الغلابة يتوجّب عليهم، أخلاقياً، أن يخرجوا من حالة الاختباء والكمون، ويقدّموا جردة حسابٍ وتقييمٍ لما حدث، قبل أن يدفعوا الذين يصدّقونهم إلى "جمعةٍ أخرى"، يلعب فيها المشير العجوز كرة القدم على أرضية ميدان التحرير، بعد أن ظهر في اليوم الموعود محتفلاً بالانتصار على فكرة الثورة.
أيضاً، من الحق، والواجب، أن نطرح الأسئلة حول "فيلم العساكر"، بعد أن خرج بهذا المستوى الفني المتواضع، إلى الحد الذي يجعل فيالق البذاءة والتسفل في نظام عبد الفتاح السيسي تشعر بالإحباط، كونها كانت تمنّي النفس بعمل يخترق العمق، ولا يكتفي باللعب السريع في المياه الضحلة، كي تواصل حملاتها المجنونة، وشتائمها المنحطّة، وتتمتع بزمن أطول للطبل والزمر والرقص على مسارح الوطنية الرخيصة، المزيفة.
فنياً، يكاد يكون هناك إجماع على أن مستوى الفيلم أقلّ كثيراً من المنتظر من "الجزيرة"، بل ومن مخرجه نفسه، الذي قدّم من قبل أعمالاً أكثر عمقا، مثل فيلم"المندس" على سبيل المثال، ومن حيث المضمون، كان أقلّ ملامسةً لعمق حياة "العساكر" مقارنةً بفيلم "موت في الخدمة" الوثائقي الذي قدمته "بي بي سي"، أو حتى فيلم "البريء" الدرامي لعاطف الطيب في ثمانينات القرن الماضي.
هنا نسأل: ماذا قدّم الفيلم سوى أنه أتاح الفرصة لإعادة شحن الحناجر العقور بمزيدٍ من طاقة الشتم والسباب، ومنحها مساحةً لاصطناع معركة، صاخبةٍ ومبتذلة، تبتزّ من خلالها مشاعر البسطاء بحكايات المؤامرة، وفزّاعات الحرب العالمية على دولة الجنرالات؟.
قبل عرض الفيلم، كان نظام عبد الفتاح السيسي في واحدةٍ من أشد لحظات الانكشاف أمام مرايا الداخل والخارج، لا يجد ما يستر به عورات التورّط في إبادة الشعب السوري، وسوءات الوضع الاقتصادي، محلياً، بينما فقدت كل أسلحة الإلهاء التقليدية نجاعتها، فلم تعد "ملاهي الشيخ ميزو" تنفع، ولا مراجيح البرلمان الفكاهي تشفع، ليأتي "العساكر" هديةً من السماء للجنرالات، تعيد الحياة إلى ورش الوطنية المبتذلة التي تتكدّس منتوجاتها في المخازن، بعد انخفاض نسبة إقبال الجمهور عليها، فيتنفس"اللوبي الصهيوني في مصر" الصعداء، وتجد آراء دميمة وكريهة الرائحة، من نوعية ما يصدره مظهر شاهين، عن الصداقة والأخوة مع إسرائيل، مقابل العداء والخصومة مع قطر وتركيا، تجد رواجاً في أسواق الوطنية المزوّرة رديئة الصنع.