عن الفارق بين عتريس وعبد الناصر
لم يكن جمال عبد الناصر غبيا، أو محدود الفهم، أو عاجزا عن قراءة نص أدبي أو فيلم. كان مثقفا، وواعيا، بما يكفي ليفهم أن رواية ثروت أباظة "شيء من الخوف"، ومن ورائها الفيلم المأخوذ عنها، من إخراج حسين كمال، يشيران إلى عصره ورجاله وسياساته. كانت الرواية التي صدرت عام 1969، بمثابة ترجمة فنية لوعي المثقف المصري (ومشاعره) إزاء هزيمة يونيو 1967. لم تخل المعالجة الفنية من مبالغة، مفهومة ومقبولة، كما لم تخلُ من شجاعة و"استبياع" ، فهي تعدل بمعايير عصرها ألف فيديو، أو "إيفينت" فيسبوك، يدعو إلى ثورة. ومع ذلك، وافق عبد الناصر على عرض الفيلم!
وجد عبد الناصر، في حاشيته، من يخبره أن الرواية تقصدك وتشير إليك، لكنه رفض هذا التأويل، ليس من موقع الجهل به، على العكس، وصلت الرسالة إلى "جمال"، لكنه لم يشأ أن تصل إلى "مستقبل تاريخه" أو إلى واقعه المأزوم، كان المنع بمثابة اعترافٍ بصدق رسالة الفيلم (والرواية المنشورة) وانطباقها عليه، وعلق عبد الناصر، وفق رواية الكاتب يوسف القعيد، "لو كنّا، أنا ورجالي، مثل عتريس ورجاله فنحن نستحق المحاكمة في ميدان عام". فتح عبد الناصر، بذكاء، دلالة النص، رواية وفيلما، ولم يعد في وسع أحدٍ القطع، أو حتى الترجيح، وفق غلبة الظن، بأنهما يشيران إلى عبد الناصر ورجاله، حوّل عبد الناصر وثيقة الإدانة إلى دليل براءة .. ومرّا معا.
في المقابل، ينزعج عبد الفتاح السيسي من فيلم يمجّده، ولكن ليس بالقدر الكافي، مثل "سرّي للغاية" الذي تناول فيه السيناريست الكبير، وحيد حامد، ما حدث في مصر منذ 2011 وحى 2013، وفق رواية الدولة المصرية، ولكن بلغة السينما، وحرفة السيناريست، وليس بلغة النشرات الداخلية والبيانات العسكرية. يتدخل السيسي بنفسه في السيناريو، ويكتب بيده ما يريد سماعه ومشاهدته، ثم يشاهد أداء الممثلين كلماته، فلا يعجبه، طبعا، فيمنع الفيلم! ولا يتوقف انزعاج السيسي عند الأفلام التي تتناوله، أو تتناول عصره، بل يتجاوزها إلى الأفلام التي سبقت وجودَه، وسبقت ثورة يناير، فيشير، في أحد خطاباته، إلى فيلم "الإرهاب والكباب"، وهو أيضا من تأليف وحيد حامد، وينزعج السيسي من إشارة الفيلم، الصادقة، إلى دور النظام السياسي (والمجتمع أحيانا) في صنع الإرهاب، بالاستبداد والإهمال وإهدار قيمة العمل والعدالة البطيئة والتديّن المغشوش والكبت الجنسي… إلخ، وهو فيلم بديع، بطولة عادل إمام، سمح به نظام حسني مبارك وفق الوعي نفسه الذي تحرّك منه عبد الناصر حين سمح بفيلم "شيء من الخوف". وفي الحالتين، كان تمرير جزء من الحقيقة جزءا من تجاوز الأزمة.
يعاني نظام السيسي، الآن، من تآكلٍ في شرعيته، شرعية المنجز "الحقيقي" (وليس التلفزيوني)، وذلك بعد تجاوز الأسعار حدود الممكن والمعقول، وتجاوز الدولار حدود الأدب، إلى درجة أن الإعلام المصري يشتمه بالأم، ويحتاج النظام إلى إعادة بناء شرعيته أو ترميمها ومحاولة التقليل من مشكلاته، محليا وإقليميًا، ويفتح باب الحوار مع بعض معارضيه. تبدو الخطوات، أخيرا، عاقلة، إلا أن النظام المصري لا يمكنه تحمّل فاتورة "تسييس" أداءاته، ولو لبعض الوقت. يتحدّث عن انفراجة، وتتحدّث شاشاته عن نهاية سياسات تكميم الأفواه التي كانت، في مرحلةٍ ما، وفق رؤية النظام، ضرورية، ولا مفرّ منها، يفتح بعض أبواب الزنازين، ويحرّر بعض المعتقلين، ويسمح بدخول بعض الأكسجين، ثم يتراجع فورا، وبشكل مرعب، ويكتب أمر الاعتقال على ظهر ورقة الإفراج.
لا يتحمّل النظام، الذي يبشّر بحرية الرأي، رأيا، "بوست"، مقالة، دقائق تلفزيونية، عادية، لا يعنيه أن يبدو صادقا (ولو بالكذب)، لا تعنيه صورته، أو صورة مؤيديه، أو معارضيه، ممن يتعاملون معه بوصفه، أولا وأخيرا، دولة، "لها كلمة". لا تعنيه شرعيته الأخلاقية، والحقيقية أنه لم يعد أحد يعرف، على وجه التحديد، ما الذي يعني النظام المصري، وما الذي يعنيه حين يسمح أو يمنع أو يعد؟