عن الكوميديا وتجلّياتها الرمضانية
لم يخلُ الموسم الرمضاني المنصرم من حضور قوي للأعمال الكوميدية المصرية ذات الـ15 حلقة، مكثّفةً وثريّةً وحافلةً بالأحداث والمواقف والمفارقات الطريفة، والحالات الإنسانية التي تلامس هموم العائلة ومشاكلها، من ناحية خلل آليات التواصل بين الأجيال في العائلة الواحدة، وصعوبة العلاقات بين الجنسين وتعقيدها، والتحولات الجذرية في القيم والمفاهيم، كما عبّرت معظم هذه الأعمال عن الازدواجية واتساع الهوّة بين طبقات المجتمع المصري، وعن غيابٍ شبه كامل للطبقة الوسطى، التي ذابت وتلاشت بسبب الظروف الاقتصادية الضاغطة التي قسّمت المجتمع إلى طبقة برجوازية مرفّهة فاحشة الثراء، ممعنة في التغريب و"الفرْنَجَة"، وطبقة فقيرة مُعدمة تلهث وراء رغيف الخبز الذي أصبح صعب المنال، في ظلّ ظروف الغلاء والبطالة والركود الاقتصادي. وقد لاقت هذه الأعمال إقبالاً جماهيرياً واسعاً، إذ عالجت قضايا أسرية ومجتمعية تعبّر عن الواقع بأسلوب فُكاهي سلس رشيق، وتفاوتت بطبيعة الحال من ناحية مستوى الإخراج والتأليف والتمثيل، لكنّها حافظت على مستوى احترافي، وأسهمت في حالة التنفيس عن واقع ضاغط يعيشه المواطن المصري والعربي في معظم بلاد الوطن الكبير.
ولعلّ مُسلسلَ "كامل العدد"، في جزأيه الأول والثاني، الذي حقّق نسب مشاهدات عالية، خيرُ مثال في سياق طرح النموذج البرجوازي المُشتهى من جهة مظاهر الرفاهية والترف التي تنعم بها طبقة محظوظة حصل أبناؤها على أفضل فرص التعليم وظروف العيش المريح، من مدارس أجنبية ونوادٍ وقصور و"فلل". العمل من بطولة دينا الشربيني وشريف سماحة، وإسعاد يونس التي أضافت ثقلاً إضافياً، وبمشاركة مجموعة من الممثّلين الصغار، من البنات والأولاد، الذين تراوح أعمارهم بين السادسة والثامنة عشرة. وهو من تأليف رنا أبو الريش ويسر طاهر، وإخراج خالد الحلفاوي. فكرة المُسلسل مقتبسة من الفيلم الأميركي الشهير "اختلاط"، غير أنّ صنّاع العمل، كعادة أهل الدراما العرب، لم يوضّحوا هذه النقطة، ونسبوا الابتكار إلى أنفسهم. يَحكي المُسلسل قصة رجل أرمل وامرأة مطلّقة يقعان في الغرام، رغم أنّ لكلّ منهما أطفالاً من زيجتيهما السابقتين، ويواجهان حين يتزوّجان سلسلة من المتاعب والمشاكل في سعيهم للمّ شمل العائلة الكبيرة، المختلطة المتناقضة، والمختلفة أمزجة أفرادها، في إطار كوميدي إنساني، ونجح العمل في طرح قضايا كبار السن، مثل الفراغ والوحدة وأمراض الشيخوخة، ومشاكل المراهقين التي لا تنتهي، والعلاقات الزوجية، بأسلوب رشيق ممتع حيوي جاذب هادف.
كذلك لاقى "أشغال شاقة"، من بطولة هشام ماجد وأسماء جلال، ومن تأليف وإخراج خالد دياب، إشادة واستحساناً من النقّاد والجمهور، على حد سواء، لما انطوى عليه من معالجة ذكيّة لتعقيدات العلاقة الزوجية والعلاقات الأسرية المتشابكة، ولم يخرج "بابا جه" عن السياق الذكي الهادف، من خلال قصة رجل يتعثّر مادياً، ويفقد وظيفته المُهمّة مديراً تنفيذياً لأحد فنادق الدرجة الأولى، ليجد نفسه عاطلاً من العمل، تدفعه مواقف عدّة، وملابسات درامية مكتوبة ببراعة، إلى العمل "أباً بالأجرة"، ليقدّم في كلّ حلقة نموذجاً لأسرة جديدة غاب عنها ربّها. وقدّم العمل كثيراً من الحالات الإنسانية والمشاكل الأسرية، مثل التفكّك الأسري، وانحراف المراهقين، وتوتّر العلاقة بين الزوجين، وغيرها كثير من ظواهر مجتمعية تستحقّ الدراسة والتحليل والمعالجة. العمل من بطولة أكرم حسني، الذي أبدع في تجسيد شخصية الرجل المُستهتر الأناني، الذي تعلم من التجربة وعاد مسؤولاً ملتزماً القيام بدوره أباً حقيقياً لابنته التي افتقدت حضوره.
تحية إلى الذين قاموا على هذه الأعمال التي أسهمت في التخفيف من أحزاننا في فضاء رمضان مضى ثقيلاً علينا جميعاً ونحن نرقب الأحداث المؤلمة حولنا، فالكوميديا رسالة نبيلة، ومنطقة خطرة، لا يقوى على اجتيازها إلا مبدعون جادّون، يدركون ذلك الخيط الرفيع بين الكوميديا الراقية الذكية والتهريج حيث يقع ضعاف الموهبة معدومي الخيال، من المستخفّين بذائقة المُتلقّي، وهم كثر.