عن المؤامرة وضحاياها
من السهل إدانة التفكير التآمري وضحاياه، لكن ذلك لن يقلّل من جاذبية نظرية المؤامرة ورواجها وصلاحيتها لكل زمان ومكان، بل وقدرتها على اختراق كل المجتمعات والثقافات. تختلف النسب والأوزان والطرائق، لكنها موجودة، حاضرة في "التغييب"، تلبّي جزءا هاما من احتياجاتنا، في عالمٍ سائلٍ، يغيب عنه اليقين، أو المعنى الذي يحفظ على الإنسان ذاتيّته وهويته والأهم بشريّته. من هنا يبدأ الأكاديمي والمختص في علم نفس المؤامرة روب براذرتون في البحث عن أسباب المؤامرة، والاشتباك معها في كتابٍ هام ومكثف هو "عقول متشكّكة .. لماذا نصدّق نظريات المؤامرة؟"، ويعرض الباحث الإنكليزي، المقيم في الولايات المتحدة، نماذج من الأحداث التي حيكت حولها المؤامرات في الثقافة الغربية، مثل حريق روما وهوية المتسببين فيه، واغتيال الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي، واللقاحات وما يترتب عليها من آثار سلبية، تصل إلى إصابة الأطفال بالتوحد، وهجمات 11 سبتمبر، وغيرها من أحداث شهدتها مجتمعات ديمقراطية، تتمتّع باقتصاد قوي، ومستويات معقولة من الرفاهية، وتعليم متميّز، لكنها لا تخلو من ملايين يحتمون بالتفكير التآمري لأسبابٍ عدة، بسطها الكتاب، ودلّل عليها. ويمكننا، بدورنا، تكثيفها في محدّد "العجز"، العجز عن الفهم، العجز عن التفسير، العجز عن الفعل، العجز عن المقاومة، والعجز عن تقديم إجاباتٍ واضحةٍ وكافيةٍ ووافية. يمثّل العجز، هنا، ألما غير محتمل، فيما يمثّل التفسير بالمؤامرة مسكنا سريع المفعول، وبدون أعراض جانبية، (كما يتخيّل أصحابه)، فلا يحتاج المتآمر أكثر من الشحن العاطفي تجاه عدوٍّ جاهز، أغيار، هم السبب، آخرين، هم الجحيم، عدو قادر على كل شيء، مسيطرٍ على كل شيء، لديه المعلومات، والإمكانات، والخطط الناجحة بالضرورة، "شيطان" لا يتورّع عن فعل شيء، أي شيء، بل هو متجاوزٌ للشيطان نفسه، فـ "شيطان السردية الدينية" يمكن هزيمته، أما "شيطان المؤامرة"، فهو أقرب إلى الإله، لا يُقهر.
ثمّة فارق، هنا، إذا أردنا العودة إلى سياقنا العربي، فارقٌ تصنعه أنظمة الاستبداد الأبوي، السياسي والديني والثقافي، والتي تعوق وصول قدرٍ أكبر من المعلومات ومن ثم الإجابات، فارق في الدرجة وليس النوع، وهو أن العقلية التآمرية العربية أشدّ ريبةً وأكثر كسلا، خطّان، أو ما شئت، تحت "كسلا"، تكاد التآمرية تختصر كل شيء، ابتداءً من نقاشات الدين والسياسة، وحتى مناكفات كرة القدم، والتي تحوّلت إلى "حديثٍ جاد"، لتملأ فراغات العدمية السياسية والدينية. تستدعي الأنظمة وأجهزتها المؤامرة وتشحن بها الجماهير، حال عجزها عن خدمتهم. وتستدعيها، مع الأسف، نخبٌ من شأنها توعية مجتمعاتها، حال عجزها عن إنتاج "معرفة حقيقية"، أو خوفها من تبعات الإعلان عن حقيقة ما لديها من معارف، فتصبح المؤامرة بديلا عن البطالة، وأخيرا يتطوّع الأفراد في "قرطسة" أنفسهم، في رغبةٍ ملحّة (ولا إرادية) في التصديق، بدلا من الانتحار.
هل يعني ذلك أن المؤامرة غير موجودة؟ يبدو القول بذلك أكثر خرافيةً وجزافيةً من نظرية المؤامرة ذاتها، فالمؤامرات طوال الوقت موجودة، لكن تفسيرها استنادا إليها لن يفكّكها، ولن ينهيها، وقد يحقّق أمانا، أو تسكينا، مؤقتا، لكنه لن يقضي عليها، فالمتآمرون يعتمدون، بالأساس، على مشكلات الخصوم، واكتشاف هذه المشكلات، والاعتراف بها، وعلاجها، هو أول طريق إفشال المؤامرة. وفي سياقنا العربي، يعد حائل "المؤامراتية" أول المشكلات، على الإطلاق، حركة التاريخ لدى ساسة، لم يكملوا تعليمهم، مؤامرة، إكراهات الواقع لدى ثوار رومانسيين ونشطاء غير مسيّسين مؤامرة، معارف العصر وعلومه لدى متديّنين تراثيين مؤامرة، حتى فرق كرة القدم، باتت في السياق العربي محض مؤامرات وتربيطات سياسية وأمنية وإعلامية وتجارية، (موجودة بالفعل)، تفسّر، وحدها، ومن دون غيرها، تفوق فريق على منافسيه، أو منتخب على غيره، أو لاعب، بجوائز فردية، (أو قيمة معنوية) على آخرين. ولا اعتبار، هنا، لفروق فنية أو بدنية أو خططية أو إدارية، (أو شخصية) قد يخبرك بها أطفال صغار، من متابعي اللعبة الأكثر شعبية في العالم، لكنهم لم يتسمموا بعد بمخدّرات المؤامرة.